هوّة فقد

ثقافة 2021/10/28
...

 إيمان المحمداوي
 
حين فتحت عينيها وهي مضطجعة على فراشها، لم تر سوى عتمة غيابه الذي طال عليها، نهضت بتكاسل تنضد سريرها، وقد تلاشت إشراقة الصباح أمامها، اتجهت نحو المرآة لترتب شعرها، حدقت في المرأة، فرأت وجهه يطل عليها بنظراته الحارقة التي توغلت في أعماقها، حاولت عبثا لملمة نفسها، لكنها أخفقت، فظلت وحيدة في بيتها المؤثث بكل شيء إلا منه.
رفعت سماعة الهاتف، اتصلت به:
- أحبك.. أحتاجك
أجابها في توتر وهلع:
- هل حدث شيء؟
أجابته بانكسار
- لا أبدا، اشتقت إليك.
فردّ وهو يزداد غضبا:
- أنا في العمل، ما بك، هل جننت؟
 
أغلق الهاتف قبل أن يسمع ردّها، رفعت رأسها نحو السماء وهي تدعو للتخلص مما يخالج روحها. لمْ تعد تعيش مشاعره المتأججة التي طالما أغدقها عليها، بينما ظلت تشعر بتلك المشاعر نحو (معشوقته) البعيدة كلما أتى الحديث عنها، إذ تخرج الكلمات من فمه بلهفة، وتتوهج عيناه مع كل حرف يقرؤه منها عندما تنشر إغواءاتها في الفضاء الالكتروني، وكم استفزها البرود في عينيه نحو كل شيء تحاول إثارته به، حتى غدت على يقين بأنها ليست من تغويه وتسعده، لكنها هي وحدها من يحيا الراحة والاطمئنان معها.
كانت موقنة بأن زوجها يمثل دور العاشق معها، لذا قررت مسايرته في ذلك التمثيل، لعله يعيش ذلك العشق بصدق يوما ما، شمّت رائحة الذكريات التي طالما جمّلت أيامها حين كانت تراه من حولها وبين يديها، حتى عندما تُبعِده الأماكن عنها، يداعب قلبها المتخم به، كم وشمت لذّة رؤيته في روحها.. ونضّدت متعتها في
 قلبها.. أخذت تتجول في المنزل وحيدة إلّا من طيفه الذي يأبى أن يفارقها. وقفت عند كل حيز شاركها فيه بلحظة حب، تلك الأريكة المنضّدة الجميلة التي احتضنتهما، قطرات كانت تترقرق من صنبور الماء، كان صوته يناغم نبضات قلبها فيزيده توترا، الموقد المخصص لقهوته، لمَ فارقته رائحتها المفعمة بالمتعة، كل شيء من حولها يفقد روحه بغيابه، يبقى طيفه الذي يرافقها، وتراه من حولها في كل الأمكنة أنيسها وجليسها، يحدثها
ويشاغبها.  
«شكرا لك أيتها الأمكنة المهمشة، لقد بعثت البهجة في روحي» هكذا حدّثت نفسها.. لا تدري لم قادتها خطاها إلى تلك الأمكنة، أكانت بحاجة إلى إزاحة التعب عن جسدها الذي أعياه السهر والوجع من لوعة غيابه؟، أم هي رغبة في اكتشاف المتعة وسط تلك الأمكنة وهي تحدثها عن ذكرياتهما معا؟. اكتشفت أنها كانت محقة حينما قالت له يوما ما: «أينما تكون يكون وطني، فالغربة حينما لا تكون»..
طالت لحظات انتظارها كثيرا، ألحّت عليها رغبة جامحة للاتصال به ثانية، لكن الهواجس لم تتركها، وأخذت تُسائل نفسها: ألم يكن يتواصل معي سابقا وهو يعمل؟، هل أصبح الاتصال به يربكه وهو في العمل؟، هل عاد لانشغالاته مع تلك المأفونة التي حوّلت حياتي إلى خراب؟، أخذت جوالها وعاودت الاتصال، كان الخط مشغولا، جن جنونها، وعاودت الاتصال ثلاث مرات متتالية، ما زال هاتفه مشغولا، نزلت دمعتها المكبوتة واحمر وجهها غضبا، رمت الهاتف بغضب على سريرها الخاوي وأخذت تلعن يومها، مرت دقائق سقطت على قلبها مثلما تسقط صخرة كبيرة على زجاج لتهشمه وهي تذرع الغرفة جيئة وذهابا، حتى رن الهاتف، فهرعت إليه بلهفة «إنه هو» فتحت الخط وقبل أن تبدأ الحديث جاءها صوته
الغاضب:
- ما بك اليوم؟ هل جننت، مديري يتكلم معي حول أوراق مهمة واتصالك لا يتوقف، هل عليّ أن أغلق في وجهه لأجيبك؟ متى ينتهي هذا
الجنون؟!!
أغلق هاتفه من دون سماع ما بها، مرّ الوقت ثقيلا قبل أن تسمع صرير عجلات سيارته، مسحت دموعها ورتبت هندامها، وهيّأت نفسها لشم أنفاسه واحتضانه، لكن نظراته الغاضبة جعلتها وكأن هسيس عجلته يمر فوق روحها، ليرسم تحت إطاراتها ظلال جسد خاو. ومع ذلك، حاولت استجماع قوتها والتظاهر باللا مبالاة والتملص من المواجهة، فردّت التحية باقتضاب، وهربت من أمامه نحو المطبخ بحجة انشغالها بإعداد
الطعام.
خيّم الصمت على ذلك المساء إلا من صدى أنفاسه وآهاتها التي تداري مشاعرها المبعثرة، كي ينتهي بليلة بلا روح، نهض في صباح اليوم التالي، بعد ليلة تعج بضجيج الصمت الموجع، أعاد إليها نظراته الغاضبة، وهي تقف أمامه لا تملك سوى عينين تمطران وجعا ينثال أمامه، كان لكل منهما نظرات محترقة ينتظر الآخر ليطفئ جمر اشتعالاته بعد أن أعياهما الكلام وهما يناوران لحظات الألم، ويذكّران بعضهما بوعودهما ولحظاتهما الفاتنة التي قضياها معا قبل العاصفة. 
تمنت لو تنجلي غمامة الغضب وتندحر أوجاعها المسكونة بالضجيج والمرارت،  فيتلاشى ما بينهما من جمود وبرود، تمنت لو يقسم لها أن سقفه لم يعد يقطر من تلك الحكايات التي لم تكن لها القدرة على إحصائها، ويعدها بأنها هي فقط نهاياته الآسرة. وبينما كانت تمور في نفسها تلك الأمنيات، تقدّم نحوها، احتضنها بقوة، وأحال صراخه إلى حنين
جارف.