قصص المهزومين من دولة الخلافة

آراء 2019/03/06
...


عقيل حبيب
في التقارير الصحفية التي ظل ينقلها المراسلون عن الخارجين من آخر معاقل داعش حيث انكمشت دولة الخلافة حتى انحصرت في مدينة (الباغوز) الحدودية، هذه التقارير تشير الى عدد من المؤشرات الخطيرة، منها ان هؤلاء المهزومين لم يكونوا يائسين جراء الحصار الطويل والقصف المستمر لم يؤثر في ولائهم للتنظيم، وهذا ما كشفته اجاباتهم عن اسئلة المراسليين الصحفيين، خاصة حينما يكون هؤلاء من الصحفيين غير العرب والتابعين لوسائل اعلام يعرف اعضاء التنظيم المهزوم تأثيرها العالمي، لذا فأن اجابات الدواعش تبدوا انه تم تداولها والتباحث فيما بينهم عليها، ربما تكون جزءا من الحرب النفسية حيث لابد ان يظهروا بمظهر الذي لا يزال قويا والمنتصر، أو ربما كانت اجاباتهم تبعث رسائل الى اصحابهم واتباعهم، وهذا ما ستكشفه اجراءات التحقيق في الايام القادمة. 
كل هذا يعيد الى الذهن السؤال التقليدي ذي الطبيعة النفسية، ألا وهو: هل اننا نتعامل مع نمط من الشخصية يمكن أن ندعوه بالشخصية الارهابية؟ أم ان الأمر لا يعدو كونه تأثيرا حادا للظروف الخارجية التي يمر بها هؤلاء الأشخاص المنظمون في حركات متطرفة كداعش؟
خلافا لتوقعاتنا عن التكوين النفسي للشخص العادي يشعرك كلام هؤلاء المنسحبين مع المراسلين الصحفيين أنهم لم يبدو كالعالقين في المكان الخطأ أو المجبرين على البقاء مع التنظيم، ولم تبدو اي علامات ندم، بل العكس نتلمس في عباراتهم مدى تعلقهم النفسي بالتنظيم وإيمانهم المرعب بايديولوجيته، وانهم لم يسلموا انفسهم لقوات سوريا الديمقراطية وقوات التحالف الدولي إلا تنفيذا لأمر
 الخليفة. 
هذا ما كشفه على سبيل المثال التقرير المهم لمراسل  CNNبن ويدمان، يكشف حجم الكارثة التي تعرض اليها هؤلاء الدواعش الذين بدوا هادئين مسالمين، ويكشف ايضا هول الفكرة العقدية المسماة الخلافة. من جهة اخرى يكشف هكذا تقرير أن هؤلاء رغم ما تعرضوا له من نقص في الطعام والدواء والظروف الجوية القاسية، ورغم الموت المحقق الذي كان يصلهم عبر ألاف القنابل، إلا أنهم لم يخرجوا إلا بعد ان طلب الخليفة ذلك منهم، أي بناء على الأمر الشرعي وليس غريزة البقاء الإنسانية، التي تدفع الانسان نحو البحث عن اي وسيلة يدفع بها الخطر عن ذاته. المجموعة التي ظلت ولم يخرجوا إلى الآن من المقتنعيين بالمشروع الداعشي رفضوا كل هذا وفضلوا الموت والتدمير الذاتي مع دمار حلم الخلافة في (بيعة الموت) لخليفة
 الموت.
من اللافت في تلك التقارير ان النساء والفتية الصغار كانوا اكثر حرية في التحدث لذا جاءت احاديثهم لتكشف القناعة الجماعية بافكار عودة (دولة الرسول) و(الخلافة الراشدة) وانهم لا يريدون سواها لأنها بحسب ما يقولون تطبق (شرع الله)، وان (الدولة) مهما ضاق الأمر عليها فستعود، وان (هذا كله امتحان من الله) فسوف (يفتح الله عليها). هكذا نرى اصرار الكثير من العائدين المودعين الآن في المخيمات على ان الخليفة لا يزال يحارب وسيجد طريقا للعودة لأن الله (صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) وان دولة الخلافة (باقية) لأنها جزء من الوعد الإلهي ولأن البغدادي هو عبده المذكور في الحديث النبوي يوم فتح مكة. هل يكشف مثل هذه اليقين وهذه الافكار، وقيام داعش بهذه السرعة والقوة، ان السلفية الجهادية - وهي حركة عالمية- تعيش عصرها الذهبي؟ واذا كانت كذلك فأي شكل جديد سيكون لها 
بعد داعش؟.
ما كشفته اللقاءات الاعلامية مع الفلول المستسلمة من الباغوز بعد انهزام التنظيم وفشله في حمايتهم بسبب انهيار دولته المزعومة، مدى عمق تغلغل فكرة الخلافة في اذهانهم، فليس شرطا ان يفقد الحدث ابعاده الرمزية بانتهائه، فقد تحدث عدد منهم عن الخلافة المزعومة بايمانية دينية وليس ايمانا عقليا أو فرديا، بل وتشعر انه يتحدث عن تجربة النبي في المدينة بحيث تماهت الموصل مع يثرب وراح هؤلاء ينظرون لعواد ابراهيم (ابو بكر البغدادي) وكأنه جزء من الدائرة المخيالية المكونة من الصحابة الأوائل او المبشرون بالجنة التي مستها القداسة السماوية بواسطة النبي فانتقلت من طبيعتها البشرية ومحيطها التاريخي الى تلك الطبيعة الخيالية التقديسية. في أحد التقارير يتحدث هؤلاء المهزومون عن اناس (استشهدوا) لأن النبي شخصيا طلب منهم ذلك، وأنه رأى النبي بطريقة ما واخبره (إن انصر دولتي). هذه التخيلات والتوهمات حينما تجد بيئة خرافية مناسبة لها تحولها الى حقائق استيهامية من الممكن وتحت ظروف نفسية غير طبيعية اصلا أن تتحول الى هلوسة جماعية تتخللها نوبات فرح وتهلل واندفاع جماعي نحو الموت.