حامد كعيد الجبوري
تمتاز الحواضر - أي حاضرة كانت - بشخوص تترك أثراً ما عند تلك الحاضرة. ففي خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانت الحلة تعج بأشخاصٍ تعد غريبة عن السياق العام للمجتمع الحلي، لا أتحدث عن أغنياء الحلة ولا شعرائها ولا علمائها ولا مثقفيها ولا تجارها، بل أتحدث عن شخصية يعرفها كل الحليين، بل ويتندر أهل الحلة بالحديث عنها وذكر نوادرها وطرفها، إنه المرحوم (عبد العمص)، مجنون عاقل، لا عمل له، يعيش على ما يمنحه له الناس، لا أعرف اسمه الكامل، ولا أعرف لأي أسرة ينتهي نسبه، ولكني أعرف أنه كان يشيع الفرح والضحكة في أي مكان يمر به.
رجل بملابس رثة وقذرة، أسمر البشرة، يترك شعر رأسه وذقنه بلا حلاقة، وحين يعطف عليه أحدهم يحلق رأسه وذقنه على نفقة ذلك المحسن، لم يكن له بيت يسكنه وكان يقضي أكثر وقته متنقلاً بين المساجد والحسينيات لا لغاية التعبد، بل كان يحضر لبعض المحاضرات الدينية بسبب أنَّ القائمين على تلك المحاضرات يقومون بتوزيع الطعام والسكائر مجاناً.
يقول الأستاذ حسين إبراهيم: {كان عبد العمص يقضي لياليه بمقهى (محمد الهبش) في محلة (الأكراد)، وبعد وفاة صاحب المقهى أصبح مكانها معملٌ للنجارة وترك المعمل لاحقاً وأصبح عبارة عن خربة استغلها عبد العمص للمبيت، أغلب الأحيان يسير حافياً، يحمل بيده عصا غليظة له فيها مآرب لا تحصى، حين يسير في الطريق العام أو الأزقة يتبعه جمهرة من الأطفال يرمونه بالحجارة، وفضلات الحيوانات، والحصى، وقشور الرقي، وغيرها، مرة تراه يركض خلف الصغار ليصدهم عنه بعصاه أو ما تيسر له من قطع الطابوق أو الحصى، ومرة تراه يهرب أمامهم وكما يقال (الكثرة تغلب الشجعان)، كانت حجارته التي يرميها على الأطفال وغيرهم لا تخطئ هدفها إلا نادراً}.
ويضيف إبراهيم {حدثني الصديق الفنان فاضل شاكر قائلا}، كنت ضمن مجموعة أطفال نلاحق المرحوم عبد العمص ونكرر بصوت منغم (عبد العمص عموصي، عبد العمص عموصي)، ومجموعة أطفال أخرى تقول (عبد العمص طك ومات/ شايل بجيبه عانات)، ومجموعة أخرى تقول (عبد العمص راح يزور/ جلب بطي.. عصفور)، ومجموعة أخرى من الأطفال يرددون (عبد العمص طي.. ملص، عبد العمص طي.. ملص)، يقول الأستاذ فاضل لحق بنا بعصاه وهربنا أمامه، يقول وقفت خلف عمود الكهرباء وحاولت أنْ يكون جسدي النحيف خلف ذلك العمود، ولكن تسديدة ماهرة من (عبد العمص) أصابت رجلي التي كانت ظاهرة من خلف عمود الكهرباء، أصابني بركبة رجلي وسقطت للأرض، وكانت إنسانية العاقل عبد العمص تغلبت على جنونه فوقف أمامي وقال ماذا فعلت لك يا فاضل؟، ويقول حملني وأوصلني لبيتي وقال لي هذه المرة سماح والمرة القادمة اشكوك لابيك}.
كانت لعبد العمص صداقة عجيبة مع مدير تجنيد الحلة المرحوم العقيد (ابو شعاع)، كثيراً ما كان مدير التجنيد يجلس عند صديق له يعمل حلاقاً بشارع المكتبات، وحين يمر العاقل عبد العمص يناديه مدير التجنيد قائلاً (عبد، عبد) وحين يسمعه يدخل لذلك المحل ويجلس جنبه ويبقيان يتحدثان ولمدة طويلة كأي صديقين، ويذكر أنَّ مدير التجنيد نقل إدارياً إلى مديرية التجنيد العامة في بغداد، وكانت لأحد الحليين معاملة في التجنيد العامة لم تنجز، ويقال إنَّ صاحب المعاملة استنجد بعبد العمص واستأجر له سيارة وذهب به لبغداد، وفعلا استطاع أنْ ينجز المعاملة بوساطة عبد العمص صديق مدير التجنيد العقيد ابو شعاع.
حدثني المرحوم الأستاذ (عطا الشمري) أنَّ المغفور له عبد العمص كان يدخل لمقهى السيد (شاكر رحمه الله)، يعدُّ اكبر مقاهي الحلة مساحة وأكثر جلاساً من بقية المقاهي، يدخل عبد العمص وهو يردد: (كرامة لله تصدقوا عليّ، كرامة لمحمد وآل بيته تصدقوا عليّ) ، فيدفع له البعض من الجلاس مبالغ زهيدة جداً ولكنها كانت تشكل مصدر عيشه اليومي، يدفعون له (فلساً أو عانة - عملة حديدة بقوة شراء ٤ فلوس)، شاهده أحد رواد المقهى وأخرج من جيبه عملة ورقية جديدة (ربع دينار)، وقال له (عبد) قل ببركات فلان وهذا الربع هدية لك، الربع دينار تعد عملة ورقية تعدل قيمة عمل يوم كامل لعامل البناء آنذاك، نظر عبد العمص للربع دينار وقال مخاطباً المتبرع: (انت وربعك وفلان و؟؟؟)، فلان احد شيوخ العشائر الظلام حينها.
ونقل لي الصديق الباحث والرياضي (محمد هادي): {الساعة التاسعة ليلاً مرَّ عبد العمص بشارع المكتبات الذي كان قلب الحلة آنذاك، وحين وصوله لمحل بيع (الكبة) صفع صاحب المحل قفى عبد العمص حتى أخرجت صوتاً سمعه الكثير، نظر عبد العمص لصاحب المحل وقال له، هل أتتك مني أذية ما، هل دخلت محلك وأكلت ولم أدفع لك الثمن، لماذا ضربتني وأنا لم أسئ لك، لم يجب صاحب المحل على تلك الأسئلة، محل بائع (الكبة) بداية زقاق سوق بيع المشروبات الروحية، وكانت سوق بيع المشروبات الروحية خالية من المتبضعين لتأخر الوقت، وجد قطعة من مخلفات صناديق المشروبات الروحية (كارتونة)، وضعها أرضاً، نزع سرواله الداخلي - ان كان يلبس السروال - تقرفص وتحته الصفيحة الكرتونية وتبرز عليها، رفعها بيده، وقف قبالة مطعم الكبة، رآه صاحب المطعم فقال له (عبد) نحن أصدقاء وانا كنت أمزح معك، أرم ما بيدك وادخل المطعم وأقدمُ لك الطعام مجاناً، لم يلتفت عبد العمص لحديث صاحب المحل - صاحب المحل معروف لي ومعروف للكثير - وتقدم لمدخل المطعم ورمى ما بيده للأعلى صوب المروحة السقفية التي وزعت تلك القاذورات على كل ركن وكرسي وقدور للطبخ، أراد صاحب المحل أنْ يعاقب عبد العمص ولكن تدخل الكثير ومنعوه وقالوا له أنت من ابتدأت والرجل جاء بالرد عقوبة عما فعلته به.
يقول الأستاذ (عماد جبار) انه شاهد مجموعة من الناس يراجعون مستشفى الرمد التي كان موقعها قبالة باب حديقة النساء، البعض منهم يخرج وقطعة من القطن والشاش يغطي إحدى عينيه، نساء ورجال على هذه الشاكلة، يقول مرَّ (عبد العمص) وشاهده هؤلاء المرضى، فقال أحدهم مخاطبا عبد العمص (اعور، اعور، اعور) يقول الأستاذ عماد جبار نظر لهم (عبد العمص) وهز يده وكأنه يهزأ بهم ولم يتكلم بأي كلام.
تحمل المرحوم (عبد العمص) الكثير من الأطفال وايضا من بعض الكبار من أهالي الحلة، قرر ان ينتقل لبغداد لعله ينهي هذه المضايقات، وفعلا انتقل لبغداد نهاية ستينيات أو بداية سبعينيات القرن الماضي كما أخبرني بذلك الأستاذ (د. مؤيد الطائي)، وغالباً ما كان يتواجد بمنطقة علاوي الحلة، والظاهر ان اهل الحلة لم يتركوه فحين يراه أحد الحليين يمزح معه بما لا يحب ذلك (عبد العمص)، يقول الأستاذ جليل الجباوي عام 1976 كنت عائداً للحلة ووجدت (عبد العمص) هناك في بغداد قرب - كراج - مرأب الحلة، وسمعت بعض المارة يخاطب (عبد العمص) ويقول له (23، 23)، ويقول سمعت جواب (عبد العمص) يصرخ بوجه ذلك المار ويقول (32، 32) وهو يرفع دشداشته - ثوبه - كاشفا عن عورته.
رحم الله الراحل عبد العمص الذي كان مروره مصدر ابتسامة للكثير، ورحمه الله ونحن نستذكر نوادره وطرفه.