البحث عن الجمال المستحيل بين سطور الجحيم

ثقافة 2021/11/06
...

  محمد تركي النصار
 
كتب آرثر رامبو (فصل في الجحيم) عام 1870 وتم طبعها بشكل شخصي عام 1873 لكن لم يتم توزيع النسخ إلا بعد عشر سنوات من وفاته.
تظهر في هذه القصيدة كما في سائر قصائده الأخرى قوة خيال رامبو الجامحة وأسلوبه الرمزي القريب من السريالية.
هذه المقالة تركز على المقطع الأول من المقاطع التسعة التي يتكون منها النص.
(مفتتح) وهي الأشد توهجا من قصيدة (فصل في الجحيم) الطويلة المركبة.
يعبر المتكلم عن وضعه النفسي الكئيب، فهو حزين بشكل يفوق الوصف، وتبدو شبه معدومة امكانية عودته للحالة الطبيعية، حيث التعاسة والخطيئة المغروسة في قلبه، وفي نهاية المقطع يفكر في امكانية الافلات من هذا الجو الكابوسي عسى أن يستعيد ثانية شهيته التي فقدها للحياة.
ثيمات القصيدة كما هو واضح تركز على العزلة، الإحباط، الكآبة، والمشاعر الدينية المستترة في طيات النص، ويبدو المتحدث مصابا بلعنة لسبب يصعب تفسيره، لذلك تطغى مشاعر البرم والقرف والاطاحة بالذات، فهو مستعد لتحطيم كل شيء بسبب خيبته من الجمال وشعوره بالاحباط الشديد من كل الرجال والنساء الذين يلتقي بهم، وفي النهاية يقيم حواره مع الشيطان.
(فصل في الجحيم) قصيدة التعقيد والحيرة المريرة، كتبت بالفرنسية وترجمت مئات المرات الى الانكليزية وجميع لغات العالم خلال القرن الماضي الذي ازدهرت فيه 
حركات الشعر الحديث التي تأثرت بقوة بالمدارس الفرنسية خصوصا الرمزية والسريالية.
وبالرغم من حقيقة ان هذا النص مكتوب أصلا باللغة الفرنسية وترجم الى الانكليزية تبقى الاشارة مفيدة في الحديث عن تقنيات أدبية معينة استخدمها رامبو بكثرة، كالجناس والمجاز والصورة الشعرية المتلاحقة، فنرى استخدام الجناس مثلا في تكرار الكلمات التي تبدأ بالحروف ذاتها في أبيات معينة، على سبيل المثال الضمير (أنا) في أبيات عديدة من المقطع الأول.
والاستعارة نراها باستخدام كلمة (الوليمة) للتعبيرعن الحياة السعيدة التي تكون شهية الفرد فيها مفتوحة.
يقول الراوي في بداية المقطع الأول بأن هناك مرحلة ما قصيرة في حياته فقط تذوق فيها السعادة، مستخدما استعارة الوليمة التي تتفتح فيها كل القلوب ليصف مشاعر السعادة التي كان يحس بها، ويستخدم التشخيص في البيت التالي واصفا الجمال بأنه يجلس على ركبته، لكنه يجده مرا فيشتمه، هاربا، صارخا على كل العناصر والكائنات التي يظن انها مسؤولة عن تعاسته وإحساسه بالخراب.
ويلجأ الشاعر إلى عدة أمثلة من المناجاة في الأبيات اللاحقة، مخاطبا السحرة، التعاسة، الكره، لكن الصوت والصدى يتوحدان حيث لايتلقى جوابا من هذه القوى المادية وتلك التي يؤنسنها، غير انه يستمر في المناجاة لقوة يأسه واحساسه الحاد بأنه تمت خيانته ربما من الجمال الذي كرس كل طاقته له، كما لو ان قوة ما سرقت كنزا ثمينا منه. ويصف بطل القصيدة نفسه بأنه وحش يمزق كل شيء كان يعطيه قيمة ذات يوم إذ اضمحل الآن إحساسه بالمتعة والشغف:
وفي سالف الأيام، مالم تخني الذاكرة، كانت حياتي وليمة تتفتح فيها كل القلوب، وتسيل كل الخمور.
وذات مساء أقعدت الجمال على ركبتي، فألفيته مرا، وهجوته، وتسلحت ضد العدالة.
وهربت. أيتها الساحرات، أيها البؤس، أيها البغض أنتم مستودع كنزي.
وتوصلت الى محو كل أمل انساني في نفسي، كل بهجة، أخنقها ووثبت وثبة وحش مفترس.
وتبدو التعاسة التي يحاول الناس تجنبها آلهة بالنسبة لهذا الشاعر الغريب الميؤوس من امكانية شفائه كما يبدو في سياق النص ومن العنوان أيضا، مشيرا الى انه قد يرتكب جرائم ليمنح نفسه شيئا ما، تنفيسا، ثأرا، صفة، وضعا معينا، معمقا هذا الظلام والجو الكابوسي الذي يحيط به:
ودعوت الجلادين كي أقضم ساعة فنائي، خشب بنادقهم، ودعوت البلايا كي تكتم أنفاسي بالرمل والدم.. واستلقيت في الوحل، وتجففت بهواء الجريمة، وكثيرا ماداعبت الجنون.
في البيت الأخير يصف الراوي الربيع بأنه جلب له (ضحكة الأبله الشنعاء) تأكيدا لإحساس حاد بالتعاسة، ساخرا، لكنه يبقي على خيط ضوء واهن للخروج من متاهته:
ولم يجلب لي الربيع سوى ضحكة الأبله الشنعاء. لكن من عهد قريب وإذ وجدت أني موشك على لفظ آخر شهقاتي، فكرت في البحث عن مفتاح وليمتي السابقة علني أسترد شهيتي.