المثقف والدولة

ثقافة 2021/11/07
...

  سلام مكي
كثيرة هي الدراسات التي تناولت موضوع المثقف والسلطة، بوصفها العلاقة الأكثر إشكالية وحراجة سواء للمثقف أو للسلطة. لكن العلاقة بين المثقف والدولة، بوصفها كيانا قانونيا وتاريخيا واجتماعيا قائما، نادرة هي الدراسات التي تولت الحفر في الخلفيات التاريخية والفكرية لتلك العلاقة الملتبسة، والتي لم تشكل هاجسا ثقافيا للنخب، رغم أهميتها. 
                                               
فالدولة ككيان، يوظف الجوانب التاريخية والجغرافية والسياسية، لخلق مجتمع منظم، ومهيَّأ للقبول بالأطر العامة التي ستحدد لاحقا وفق المعطيات التي تضعها السلطة السياسية. فالدولة وفقا للفقه الدستوري، تتكون من إقليم وسلطة وشعب. 
ثم يلحقها اعتراف دولي بوجودها، ومن ثم الانصهار في بوتقة النظام الدولي. والدولة تمثل هوية عامة للأفراد، ودور المثقف هنا، هو السعي لتمتين العلاقات والروابط بين الأفراد وبينها، والسعي لتقوية الأواصر بين الدولة وبين الأفراد. لكن ما يدعو لحالة التناقض والالتباس هو التمييز بين الدولة ككيان قائم وبين السلطة كمجموعة أفراد يتولون تقرير المصائر. فهل إن دعم الدولة يعني بالضرورة دعم السلطة؟، كيف يمكن للمثقف أن يدعم الدولة من دون الوقوع بفخ دعم السلطة؟، هنا علينا البحث عن الظروف الموضوعية التي تحكم العلاقة بين الطرفين: السلطة والمثقف. 
فإذا كان هنالك هامش من الحرية وقدرة على التعبير عن الرأي، فإن مسؤولية المثقف أسهل وأيسر مما لو كانت الحرية معدومة. فالمثقف يمكنه طرح رأيه وبصراحة من دون الحاجة إلى التلميح والدخول في متاهات اللغة والغموض الذي سيكون حاجزا بين المرسل/ المثقف والمتلقي/ الجمهور. كما أن وسائل التواصل بين الطرفين ستكون متاحة وبشكل واسع، مما يولد إمكانية على نقل الأفكار كما هي، من دون الخوف من التزييف 
والتزوير. 
في واقعنا الراهن مثلا، فإن مسؤولية المثقف هو دعم الدولة بوصفها الخيمة التي يأوي الناس إليها، بغض النظر عن السلطة وطبيعة علاقتها بالناس. الدولة ثابتة والسلطة متغيرة، وهي الأمل الوحيد المتبقي على ولادة سلطة قريبة من الناس. ويحدث هذا عندما تسعى السلطة الى تذويب مفهوم الدولة بمفاهيم أخرى، كانت بالأمس مجرد أفكار هامشية لا وجود لها إلا في بطون الكتب ورؤوس أشخاص يختفون في الظل. أما اليوم، فإن تلك الأفكار تحولت إلى مبادئ قارّة، تسعى السلطة لجعلها ثوابت سياسية وفكرية لها ولأنصارها. هنا يأتي دور المثقف ليكون قوة مضادة، سلاحه فكره المعبر عن فكرة الدولة التي لابديل عنها. 
والمثقف هنا عليه مواجهة السلطة ومواجهة مثقفي السلطة الذين أخذوا يروجون وبأساليب ملتوية وماكرة على فكرة التخلي عن الدولة والسعي نحو البديل!، مرة عبر تزييف التاريخ ومحاولة النيل من الثوابت التي قامت عليها الدولة ومرة من خلال القول بعدم قدرة الدولة على أن تكون صاحبة السيادة الكاملة. 
حتى أن بعض المثقفين راح ينقب بين الكتب القديمة عسى أن يجد ما يدعم هدفه في تسفيه فكرة الدولة عبر نقل آراء لا دليل على صحتها، تقول بأن العراق لا يملك شعبا بالمعنى القانوني للشعب!، ومثقف آخر يسخر من قدرة الدولة وامكانيتها على مواجهة الأزمات، ويتعكز على الأخطاء التي حدثت قبل سنين كشواهد على إثبات رأيه. كل ما يطرح من هكذا أفكار هي محاولة للتمهيد لبديل الدولة وهي الفوضى بالضرورة!، لأن لا يمكن أن تحل أية سلطة محل الدولة ويبقى المجتمع على حاله، إذ إن بديل الدولة هي الفوضى حتما. 
وهذا الأمر ينطبق على المدة التي سبقت التغيير، حيث أن المثقف التابع للسلطة، كان يسعى للقول بأن السلطة هي الدولة، وعدم دعم السلطة يعني عدم دعم الدولة ومن ثم فإن العقاب مستحق. إذا كان ردع هؤلاء أمرا غير متاح في الوقت الحالي، فإن المتاح هو المثقف الحقيقي الداعم للدولة، يمكنه أن يقف بوجه محاولات تحجيم مكانة الدولة وأهميتها والاقناع بأن البديل هو الخيار الأمثل للوضع الحالي. ومثلما يمارس مثقفو الطرف الآخر مهامهم بشكل طوعي من دون تكليف من أحد، عدا الأمل بمقابل حتى لو كلمة، فإن دعم الدولة واجب أخلاقي وثقافي ووطني على المثقف، من دون أن ينتظر تكليفا من أحد أو الوعد بمقابل، فقط الانتماء الحقيقي للدولة هو الدافع لهذا العمل.