الماضي ليس سوى ابتكار للذاكرة

ثقافة 2021/11/07
...

  هدية حسين
 
بعد ثلاثين عاماً قضاها في المنفى يعود فابريس الى موطنه الأصلي، لم يكن في منفاه القسري مثل بقية المهاجرين، لقد انتزع نفسه من جذور تلك الذكريات التي تكبر مع الأيام وتُجمّل الأوطان، لن يكون مثل أولئك المنفيين والمهاجرين الذين يخفون كل شيء سيئ عن مدنهم الأصلية فتصبح بعد ذلك الفردوس المفقود، كان قد هرب من بوينس آيرس بعد اشتراكه هو وحبيبته مارتا في تظاهرة ضد النظام، فجوبهت تلك التظاهرة بالعنف من قبل الشرطة، أطلقوا عليهم الرصاص الحي فمات العشرات، وقد أضاع مارتا في تلك الحومة وما كان عليه إلا الهرب من مدينته الى روما، وهناك استقر وعمل وكبر في السن بهدوء، لكن ذلك الهدوء تخلخل عندما وصلته رسالة من ابنه في المعمودية يطلب منه الحضور لحفلة زفافه، لقد مست تلك الرسالة وجعاً دفيناً كان فابريس قد دفنه في الأعماق.. حول تلك العودة تدور أحداث رواية (عودة) للكاتب الأرجنتيني ألبرتو 
مانغويل.
تلعب الرواية على المشاعر التي تنبثق من أعماق النفس لرجل خرج شاباً من بلده وعاد إليها شائخاً، وستصدمه تلك المشاعر المتغيرة عندما يجد ويلمس ماضيه وقد شاخ أيضاً، بذكرياته وأبنية المدن وشوارعها وأصدقاء الأمس، وستلعب الصدفة لعبتها في الجمع بينه وبين أولئك الأصدقاء من دون أن يبحث عنهم، حتى حبه القديم لمارتا سيعود، ولكن ليس كما كان بل بما فعله الزمن، والزمن لا يتكرر، وإذا ما تكرر فسيكون بصيغة أخرى وبأشكال متعددة غير ملموسة لمس اليد، إنه يخربش ويحيل الأجساد الى خرائط لا تشبه ما كانت عليه.
لقد كانت ذكرياته القديمة تصاحبه من المطار حينما حط على أرض الوطن وحتى ضياعه في المدينة التي أصبح زحامها لا يطاق، وناسها غير الناس، وتغيرت الكثير من الأشياء التي كان يعرفها، بل تغير كل شيء حتى ليكاد يشك بأنه على أرض الوطن، لاحظ أيضاً وهو يستقل التاكسي الى الفندق أن العشوائيات زادت أضعاف ما كانت عليه، وبعد وقت طويل وصل الفندق الذي كان ابنه قد حجز له فيه، ولكن ثمة التباساً حدث فأنزله السائق في فندق غير فندقه، ولم يشأ أن يبحث عن فندق آخر، غير أن موظف الفندق أخبره أن الغرفة الوحيدة الشاغرة ستجهز بعد اربع ساعات، فاضطر أن يضع حقيبته في الأمانات ويأخذ جولة ليتعرف على المدينة على الرغم من التعب الذي كان عليه، الاثنان، هو والمدينة أنكرا بعضهما، فلا هي مدينته ولا هو ابنها الذي كان يضج بالحيوية والشباب.
كل من سيلتقيه من أشخاص كان يعرفهم لم يكن الأمر مخططاً له، بل لعب ألبرتو مانغويل على المصادفات، ولو لم تحدث تلك المصادفات لقرأنا رواية أخرى، خرج الى الشوارع وقد بدت له بوينس آيرس مثل غول في ازدحاماتها وناسها الذين يشبهون في مشيهم نهراً من سيول لكثرتهم، ووسط هذه الحشود سيرى ليليانا، عرفا بعضهما وأخذها الى أقرب مقهى، تحدثا عن الماضي بكثير من الأسى، وحين تأخر النادل بجلب فنجاني قهوة استأذنها وراح يبحث عنه، وفي اللحظة التي وقع عليه بصره اختفى النادل وراء أحد الأبواب فتبعه، لكن الباب قاده الى ممر والممر أفضى الى الشارع، ولم يعد يستطع العودة الى ليليانا، لأنه حين التف حول البناية فقد أثر 
المقهى.
وظل يدور، ومع دورانه تتبدى له المدينة الشائخة بالمزيد من الغموض، وجد أمامه فجأة المقهى الذي التقى فيه ليليانا فدخله وسأل النادل نفسه عن المرأة التي كانت معه فأنكر النادل أن ثمة امرأة كانت معه، يا للعنة، خرج ثانية الى الضياع فإذا بأحد أصدقائه القدامى ينادي عليه، إنه تونيو الذي أعاده الى ذلك اليوم الذي كان فيه فابريس مع مارتا في التظاهرة، وكيف أفلتها وسط الدخان والرصاص، لا شيء من الأمس يمكن الإمساك به، الماضي لا يتكرر، إنه فقط يعود في الاستذكارات كشيء وهمي، حاول تونيو انتشاله من ذكرياته فسأله عن مغامراته في إيطاليا، حكى له بعضها من دون ذكر لعلاقته بامرأة تدعى فاليريا التي انتهت بالانفصال (لم يولِ ألبرتو مانغويل اهتماماً بتلك العلاقة لقد مر عليها مروراً عابراً في الرواية) في المقهى الذي ضمهما سيتعرف الى بابلو، صديق الأمس، الذي تحول الى الصعلكة، كان نائماً في أحد الزوايا بملابس رثة، بابلو هذا كان أيضاً أحد المتظاهرين، أمسكوا به ورموه الى البحر، ولأنه سباح ماهر في تلك الأيام فقد نجا من الغرق.
كان تونيو على موعد مع امرأة فلم يستطع البقاء مع فابريس الذي وجد نفسه مرة أخرى في الشوارع المزدحمة وقد أضاع أي أثر للفندق الذي حجز فيه، وفجأة، بمصادفة غريبة يرى مارتا ويمسك بها، لكنها أنكرته، قالت له بحسم أنها ليست مارتا، إنه لا يشك بأنها هي فلماذا أنكرته؟ وتستمر المصادفات، فقد التقى أحد مدرّسيه في ذلك الزمن، إنه الآن يعمل سائق حافلة، سيأخذه في الحافلة التي لا تتوقف إلا في نهاية الخط، وسيحكي له الكثير مما فاته، وسيصلان الى مكان يبدو فيه أحد الفنادق القديمة، ويخبره الأستاذ بأن هذا الفندق كان شاهداً على العديد من الأحداث.
من خلال الحوار عن الفندق سيلقي ألبرتو مانغويل ضوءاً كاشفاً على الحياة السياسية والصفقات والفساد الذي كان يتم بعلم السلطات، إنه وكر للصوص والسياسيين وأصحاب الشركات الكبرى والعاهرات وكل من باع بلده، وحتى الآن لم تتغير سياسة البلد.. ازدحمت الرواية بالتفاصيل الكثيرة التي لا يمكن الإلمام بها في هذه المقالة، ومنها لقاؤه ثانية بمارتا وهذه المرة لم تنكره لكنها كانت حاسمة ولم تتقبل اعتذاره عما حصل، وستنتهي الرواية نهاية مفتوحة لم يصل فيها بطلها الى فندقه ولا الى إيطاليا لأنه أضاع أحد مستمسكاته، كان يمكن أن تكون هذه الرواية أطول مما جاءت فيه لأن الكشف عن تاريخ بلد منذ ثلاثين عاماً لا يمكن أن تحتويه رواية بـ 113 صفحة.