إبراهيم الخياط نصوص التثاقف والمعرفة

ثقافة 2021/11/07
...

 علي سعدون 
هذه الورقة تريد أن تقول بمحددات وملامح تجربة إبراهيم الخياط الشعرية بما هي، لا كما يراد لها أن تكون في النقد السائد. ولكي نحدد هذه الرؤية بمنظار الإجراء النقدي بوسعنا أن نحيل شعر الخياط بانتمائه للتجربة الثمانينية بسبب انحيازه – فنيا – إلى بنية التثاقف والمعرفة والنص وهي تنتج الغموض بأوضح تمظهراته.
هناك تجارب كثيرة اشتغلت في ثمانينيات القرن الماضي من دون أن تلتحق بالتصنيف النقدي للجيل، أعني على وجه التحديد أن إبراهيم الخياط وجمال جاسم أمين وعبدالسادة البصري وكريم جخيور وركن الدين يونس وعلي الإمارة وعدد غير قليل من أدباء الهامش، كانوا من الرهط الثمانيني، ليس على مستوى العقدية أو العشرية، إنما على أساس السمات والملامح. ومن أهم هذه الملامح والسمات هي (الغموض) وهو علامة فارقة في شعر 
الثمانينيات.
لدينا نوعان من الغموض، شاخصان وواضحان في الرؤية النقدية. والغموض صفة لازمت الشعر العربي والغربي، قديمه وحديثه، حتى قيل في أزمان غابرة: لا شعر خارج دائرة الغموض، وان الكلام الذي يجري بعادية ووضوح هو إنشاء بسيط لا علاقة له بالشعر؛ لما للشعر من انساق بنائية ولغوية وبلاغية تميزه عن الكلام العادي في 
سواه. 
أقول لدينا نوعان من الغموض يجريان بقوة في معظم ما انتجناه من شعر معاصر، وهما الغموض الفني وهو المهم في هذا السياق، وأيضا هناك الغموض العادي والسطحي الذي ننعته بالمفتعل والمصطنع ((غموض قصور وافتعال))، وغموض الافتعال لايكون منتجا في الخطاب الشعري. ولا اعتقد بوجود غموض آخر تتوخاه الشعرية، أو أنتجته الشعرية المعاصرة خارج هذين التصنيفين.  
لكن ما الذي يجعل الخطاب الشعري غامضا وعصيا على الفهم ويحتاج على الدوام إلى تعدد القراءات فيه، أو يحتاج إلى خطاطة أكثر تعقيدا من خطاطة كتابته وبنائه. 
ثم، هل النص الشعري الحديث يستحق مثل هذا النوع من الترميز؟، هل يشكل الرمز إضافة للنص؟، هل حرّك فيه بلاغة من نوع ما؟، أم جعله أكثر 
تعقيدا. 
ولعل الجرجاني عبدالقاهر، أول من نبّه إلى ظاهرة الغموض وقسمها إلى قسمين غموض محمود وآخر غير محمود يسميه – التعقيد – ويعني به ما يرهق الفكر ولا ينتج ثمرة. والثمرة بتقديري 
البسيط هي المعنى النادر أو احتمالات المعنى النادرة التي ينتجها الشعر على وجه التحديد مثلما تنتجها فنون التعبير الأخرى في بعض من إجراءاتها. الغموض عند الجرجاني، يكاد يكون من متطلبات الشعرية، بل هو صنوها والدال على طبيعتها.. 
إنه يرى في الغموض المحمود صفة طبيعية من صفات الشعر الحقيقي، ولا يقتصر ذلك على التخريجات النقدية القديمة التي نشير إليها اليوم، إنما تتعداها إلى تنظيرات معاصرة جرت منذ مطلع القرن
 العشرين: 
((إنّهُ/ قابَ قتلين أو أدنى/ فحقَّ عليهِ القولُ/ بعدَ أنْ فرهت أحلامُهُ/ ونحتْ به عن جزيلِ إفتقارِهِ / أوْ قُلْ/ نَحتَ به الى سدرةِ الترفِ القوراءِ/ فصار يعرفُ الطبقاتِ/ والمسافةَ البيّنةَ/ بينَ الكمَّ والكيفِ/ والسوادَ الشموليَّ للغراب الليليَّ/ وصارَ يبكي/ بعدَ الحزنِ الأربعين/ على رجيفِ ناياتَهِ/ حتى/ صارَ يعلمُ/ أنَّ البحرَ صغيرٌ/ وأنَّ السماءَ دونَ عيونِهِ/ وأذهلَهُ/ ـ على غير عادته ـ / أنّ التحالمَ/ يُفضي إلى سِنةٍ من الرؤى المقلنسة فأتى بالتأويل مذبوحةً/ إلى دكانِ كآباتِهِ/ علّهُ يرتعب!/ أو يدّعي الكسولَ!! / أو يلوذ بإرثِ أنينه !!! .)) جمهورية البرتقال
 ص11 .  
يتضح أن الغموض الفني الذي يعمد اليه الشاعر بقصدية المعرفة والتثاقف، كان سببا وراء التركيب اللغوي الذي اعتمده الشاعر في هذا النص، وهو تركيب يغاير ويعارض شكل قصيدة النثر التي تجري على وفق تنظيرات سوزان بيرنار .. ولعل الناقد فاضل ثامر كان قد استفاض كثيرا في دراسة هذا الجانب المهم في الشعر العراقي، من خلال مبحثه {إشكالية الغموض في الشعر العربي الحديث}، في كتابه {شعر الحداثة من بنية التماسك إلى فضاء التشظي /المدى 2012 ص377 – 388}، في ان الغموض يشير الى الطاقة الايحائية الكامنة القادرة على تقديم بث دلالي وسيميائي متعدد الأوجه والتأويلات والاحتمالات.... ولذلك فنحن مع الغموض المشع الذي يكشف دخائل النص ويحفز نداءاته تجاه القارئ ويدفع إلى لذة جمالية متصلة، وهي لذة معرفية وروحية معا}.
لا نريد أن نختصر هذه التجربة بعتبة واحدة من دون أخرى. 
فثمة التناص القرآني ايضا في شعر ابراهيم الخياط الذي ينشد من خلاله اغناء النص وجعله في صميم المعرفة لا التجلي الصوفي او الروحي 
وحده. 
ولهذا جاءت معظم نصوص الخياط مزدانة بالاستعارة القرآنية التي اضافت للنصوص بُعدا رمزيا وبلاغيا واخذته بعيدا عن المعنى المباشر الذي يجعل من الشعرية ذات نبر احتجاجي واضح اذا ما ارادت ان تكون في صميم التعارض والتضاد مع ادوات القمع والاستلاب السياسي. 
وان خطابا غامضا سيعمل على تسويف الخطاب اكثر مما يجعله في صميم فعاليته الثقافية التي نريد لها ان تكون قوية وصادمة.