من أجل الحب نجمع الزهور للنساء

ثقافة 2021/11/08
...

  ناجح المعموري
كاظم الجماسي إنسان مقترن بصداقة مع الكتابة، وهو يقدم مفهوماً شخصياً لما يحب ويفلسف ما يقرأ. ولعل الإشارة لآلية الكتابة وتصور البحث عن الموضوع الذي يذهب اليه بطيئاً لأنه منقب، وحفرياته متراكمة مثل نصوصه البدئية التي نركض وراءها. وإشارتي للبدئية، أعني بها تراكم المعنى، والابداع سمته المعاني التي تظل مختفية ومن يطرق عليها يكتشف منها ويبقى الكثير منها. 
البدئية لها حضور واضح في سرديات الجماسي، التي تذكر بأصول أولى، لها لحظة مبكرة جداً وتتماثل مع النصوص المحفور باستمرار عنها، هو لم يشأ التشفير الدلالي، على ذلك عبر استحضار نص بدئي ونصوصه الأمومية روح سومر الطافية حتى الآن، لكنه ذهب الى الشاعر {رايزماريا ريلكه}وينقل شهادة له، ترجمها الشاعر سركون بولص الذي تعامل معها بوصفها مرآة معرفة بصورته، وهي سيرة فن، صداقة، عشق وجنون عن الشعر وكيفية الترقب لكل شيء في الحياة، مجدد وغير معروف أيضاً هذا هو هوس الشعراء. والتقاط كاظم الجماسي لما استجمعه ريلكه كلمة كلمة حتى تحولت متراكمة تكفي تاريخاً حافلاً بالصور والمشاهد، العاقلة والمتخيلة، المجنونة، الهادئة، المشاكسة، الضاجة بما مساهم بتكوينها متراكمات للغة التي ضجت بما هو غير مألوف، وبكل المعروفات، لأن الادب هو تعنيه شهادة ريلكه وسركون والجماسي، ولأنها عن كتابة الشعر، فلا تعني كل ما ينجزه الانسان المبدع، حتى ولو كان يروي نكتة. كل هذه الشهادة التي تشارك فيها الثلاثة ويتخالف معهم كثر من الافراد التي تكتب، وانا اقرأ ما كتبه ريلكه رأيت كاظم الجماسي صامتاً يستعيد ما كتب ويضيف ما يريد اعتماده تشفيراً على نصوصه السردية، ووجدت من بينها مرويات شعرية مبطنة بالمعنى الهادئ، والصاخب، والتي عبرت لماحة في الشهادة، ولعل المرأة اكثر الكائنات تواجداً في الشهادة، اعني الحب، ولياليه الكثيرة. لأنها متباينة عن بعضها، وكأن ريلكه يعرف طعماً لكل امرأة، درجات الحب متباينة ومختلفة، المرأة مثمرة، لكن الثمر مختلف عن بعضه، وليس كله منتجاً لتذوق متماثل ومتشابه، الحياة تركض، تخطو بهدوء وكأنها تريد ان تتعرف وتلتقط وتجهد كثيراً في حفريات صعبة توجع وبها ألم، لان الكائن الذي يريد ان يكتب عليه الحذر، حتى لا يهشم الكلام البدئي، صورته، رمزيته، ايقونياته. 
قدم ريلكه شبكة اسرار خاصة به، لكنها مثل المدونات المقدسة التي تعارفت عليها الجماعة عبر التوارث. واعتادت عليها إرثاً حازت عليه الذاكرة الجمعية، كإدارة لها وهذا امر حيوي كاظم الجماسي اختار نص ريلكه باباً صغيراً للغاية، التسلل اليه صعب ومفرح، في خواتيمه سعادات مثل التي تستولدها رؤية الطيور وهي تفر مفزوعة، مودعة غصنها وتنشر الوانها وروائح ما علق بأجنحتها، وكأنها طفولة يقظة الاستيقاظ  لترتوي من ماء الام الذي هو اسرارها.
المرأة خلية مبكرة لبدئيات كل الجماعات التي عرفتها الجغرافيات ومنحن الجمال وصارت الاراضي الصامتة ناطقة، كلاهما هو الذي تعنيه شهادة ريلكه، مثلما تومئ لكل ما اثار الفرح والحزن لدى كاظم الجماسي وهو يرى النساء اللاتي توزعن على سرديات، لكن لكل منها شكلها، جسدها، الجمال المنثور مع روائح الكد والتعب، المرأة هي البدئية التي لاذ بها الجماسي.
وسليمة احداهن لأنها زهرة ريلكه التي تنثر عطرها في الأماكن الذاهبة اليها ولم يشعر الجماسي بالتحايل أو التكتم والتستر عندما قال {الى الزهرة التي لم تكف لحظة عن نشر عطرها في أرجاء حياتي، سليمة طبعاً}.
باختصار دخل كاظم الجماسي منطقة المغامرة والهوس لملاحقة مفرداته وكان ينتقيها بمهارة وندرة تمنح سردياته القصيرة خاصية البدئية، والعودة لقصة {تحرير} نجد بوضوح تكرار الطاقة الحيوية، اللينة، المرنة، التوظيف الجديد الذي أسسه ريلكه في شهادة من أجل النجاح في كتابة نص واحد. وركض اليه سركون بولص والتجاور المهاري، الذكي، ذكاء الجماسي عندما كتب عن جان دومو واختاره بناء لبانوراما، تغيرت الصفة، ما يعني بأن ريلكه لا يعني الشاعر فقط، بل كل من يزاول عملاً لا بد أن يحوز تميزاً وابداعاً.
في الشهادة غرابات أضفت على المبدع صفة خارقة، هو أسطوري، مقدس ومجنون، لديه مهارات لا يعرفها شخص غيره، إنه يلتقط ما تومئ به وترسله الأزهار في بكريات الصباح. والذاكرة فلسفة الشعر ولا معقوليته، هو متخيلات ضاغطة بقوة لاستعادة المحفوظات ومعاينة شرائط ما مضى، لذا لا بد من زيارات جديدة لأماكن وحوارٍ في مناطق تناستها الحاسية بالعلاقة مع المكان. 
وأهم ما وظفه الجماسي، شعريات المرأة بتنوعات مشاهدها وحتى ما سأتحدث عنه. الجماسي المعاين لكائن تغادره الحياة وهي صاخبة قريباً منه، في الخارج، وهو يستعيد ثنائية الحياة والموت، النظام الأسطوري ولهذا سردية فريدة وجميلة، وأخرى عن نساء يغادرهن العمر لكنهن، بعد استراحة مؤقتة، عند زيارة المساء لهن، يتفرغن لأجسادهن "وبعد.. ليس كافياً أن تكون لك ذكريات. 
عليك حينما تتذكر، أن تكون قادراً على نسيانها وأن تصبر ريثما تعود اليك... ذكرياتها بذاتها ليست مهمة إلا اذا تحولت الى دم فينا، الى نظرة شاردة، وعدت من دون أسماء تميزها عن أنفسنا.. آنذاك فقط وفي ساعة نادرة، يمكن للكلمة الأولى للقصيدة، أن تنبثق وتسير ببطء، متوجهة نحوك // ص8.
ما قاله ريلكه رآه الكثير من الشعراء ومن يتعاطى الإبداع، لكنه الوحيد الذي عرف الدنو منه والاقتراب اليه وكيفية التصرف. 
بمعنى العمر كله بازدحاماته وضجيجه ومرويات الأحلام وعلاقات الصبايا والنساء والجوع ومشاهد الموت، وصراخ الولادات، كل هذا يمنح نصاً شعرياً وكأن ريلكه هو الذي اقترح اليومي وعلاقة الواقعي بالتاريخي، التخيّلات المنشطة لاستدعاء الشعر الذي يستنبت كونيته والتاريخي الممسك بوقائعه. أدعو من يقرأ ولديه رغبة التكشف والهوس بما هو مدهش أن يقرأ مجموعة كاظم الجماسي {كما لو أننا نولد للتو}.