الارتقاء بالذائقة

الصفحة الاخيرة 2021/12/20
...

سامر المشعل 
يروي الاديب المصري توفيق الحكيم في احد مؤلفاته، عندما كان يدرس في اوروبا، ويقول «كنت ارى حفلات موسيقية في اوروبا وباريس، تضم عدداً كبيراً من الناس للاستماع الى الموسيقى، وكأن على رؤوسهم الطير»، وكان يتساءل مع نفسه: كيف لهؤلاء الناس أن يجلسوا لساعتين أو ثلاث ساعات يستمعون الى الموسيقى؟ بينما أنا لا استطيع المكوث بالمكان لمدة خمس دقائق، ويقول مع نفسه «لا بد أن هناك متعة معينة أنا لا ادركها».
هذا هو مربط الفرس، والمفصل الحيوي في عملية التذوق الموسيقي، وهو أن تسمع وتربي اذنيك على السماع، ومن ثم تبدأ بتحسس العمل الموسيقي بما فيه من جمال وابداع.والحقيقة أن المجتمعات العربية عموما والمجتمع العراقي خصوصا، لم تتربَ ذائقته على سماع الموسيقى العالمية، انما نمت ذائقتنا وترعرعت على الاغنية الشعبية، التي اساسها المفردة الشعرية، ومن خلالها، نتحسس الاغنية، ونحكم على جودتها أو رداءتها.اذا رجعنا الى الربع الاول من القرن الماضي، فلا نجد اهتماماً كبيراً بالموسيقى وهناك تسجيلات لمطربين يعزفون لهم على ايقاع «الصينية»، ويعتمدون بذلك على قوة أصواتهم وجمال الشعر المغنى، ثم أخذت الاغنية الشعبية تتطور وتدخل الموسيقى فيها كمعادل جمالي وذوقي على يد ملحنين وموسيقيين اكاديميين، ولا بد من الاشارة هنا الى اسهامات الاخوين صالح وداوود الكويتي، في تأسيس الاغنية العراقية الحديثة، من خلال موسيقى نابعة من روح المجتمع العراقي.لكن الانعطافة الأهم التي حدثت بالأغنية العراقية هي مع الفنان ناظم الغزالي، الذي عمل توزيعاً موسيقياً هارمونياً لأعماله الغنائية بالاستعانة بأهم موسيقار عراقي آنذاك وهو جميل بشير، ثم توالت اعمال الموسيقيين والملحنين وأصبحت الموسيقى جانباً مهماً في بناء الاغنية وليس جانباً كمالياً. 
وأخذت الذائقة الموسيقية والغنائية ترتفع وتنضج لدى المجتمع العراقي من خلال الاعمال الموسيقية والغنائية العراقية التي كان يقودها فرسان الشعر والتلحين والغناء الى أن وصلت الى قمة عطائها الابداعي والحداثوي في سبعينيات القرن الماضي.وكان لمؤسسة الاذاعة والتلفزيون الدور الأهم في نمو وارتقاء الذوق العام من خلال انفتاحها على بث روائع النغم الشرقي والعربي وعلى درجة من التنسيق في بث الاغاني وفق أوقات محددة ومدروسة، فهناك أغاني الصباح والظهيرة والمساء، فكنا نسمع أغاني أم كلثوم وفريد الاطرش وفيروز ووديع الصافي وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة، هذا بالاضافة الى البرامج النقدية الرصينة والهادفة التي تعزز من ثقافة المستمع وذائقته، وبث أعمال موسيقية لكبار المؤلفين الكلاسيكيين، ليس هذا وحسب وانما أخذت الاذاعة على عاتقها حماية الذوق العام من خلال لجان لفحص الاصوات، تمنع أية أغنية تسيء للذوق العام.
ومع تأسيس اذاعة وتلفزيون الشباب في العام 1993 بدأ الخط الذوقي بالهبوط الى أن وصلنا الى ما نحن عليه.