أفغانستان بين مرارات السياسة وخذلان الاقتصاد

الرياضة 2021/12/29
...

• جواد علي كسار
تعد تطورات الحدث الأفغاني، بانهيار حكومة أشرف غني ووصول طالبان للسلطة، أواخر شهر آب الماضي، من أبرز حوادث منطقة وسط وشرق آسيا خلال العام 2021م، إن لم تكن أبرزها على الإطلاق.
لقد واجهت حركة طالبان، مع فرض هيمنتها الكاملة على البلد بانسحاب أميركا، ثلاث مشكلات رئيسة؛ سياسية وأمنية واقتصادية. قد يمكن تأجيل الأولى المتمثلة بشكل النظام وهويته وتركيبته وخياراته، والأهمّ من ذلك شرعيته في الداخل والاعتراف به في الخارج، لكن لا يمكن الانتظار بالنسبة إلى مشكلتي الأمن والاقتصاد، لارتباطهما بحياة الناس اليومية، ومتطلبات المعيشة.
التردّي الاقتصادي
إذا كان أغلب الأطراف يشهد، تقدّم حركة طالبان ونجاحها بفرض الأمن نسبياً، من خلال رمزية اسمها وما يمليه من خوف بل رعب منها، ورصيدها التأريخي في تجربة الحكم الأولى (1996 - 2001م) والكفاءة التي أبدتها بنزع سلاح الآخرين، وفرض سلاحها وحدها كسلاح مركزي لأفغانستان كلها؛ ففي المقابل يشهد الجميع أيضاً بمن فيهم طالبان نفسها، بضعف الوضع الاقتصادي وترديه على مستوى أغلب مرافق البلد؛ بل يُنذر بالمزيد من التداعيات الوخيمة، بإجماع الأرقام وشهادة جميع الأطراف المعنية بالوضع الاقتصادي الأفغاني، من دول ومؤسّسات إقليمية وعالمية.
ففي تقرير مكوّن من ثلاث صفحات، صدر عن الأمم المتحدة أواخر تشرين الثاني الماضي، حذّر من انهيار مرتقب للنظام المصرفي، بعد خسارة نحو 40 ٪ من الأصول المودعة. فالبنوك لم تعد تمنح اعتبارات مالية جديدة، وقد تضاعفت القروض المعوّقة، وبلغ النمو في حجمها 57٪، على ما أوضح ذلك عبد الله الدرداري رئيس بعثة (UNDP) عندما ذكر بأن النظام البنكي كان ضعيفاً قبل طالبان، لكنه تصدّع أكثر مع وصولهم إلى السلطة في شهر آب المنصرم.
للتدليل رقمياً على التبعات الخطيرة لأزمة النظام المصرفي، أفاد هذا التقرير بأن مدار العملة التي تتحرّك قي اقتصاد أفغانستان اليوم، لا يزيد على (500) ألف دولار، في مقابل (7) مليارات من الواردات في العام 2020م، وكنتيجة لذلك إذا انهار النظام المصرفي وتوقّف عن العمل تماماً، فإن تأهيله مجدّداً وإعادته إلى الخدمة، قد يحتاج بحسب هذه المعلومات، إلى عقود.
 
استشرافات أميركية
في مقالين مطولين يعودان إلى مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، التي تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية، وكذلك مجلة"فورين بوليسي" التي اشترك في تأسيسها صاموئيل هنتغتون، وما زالت تصدر منذ عام 1970م؛ من خلال هذين المقالين سجّل المختصّون الأميركان، استشرافاً سلبياً لمآلات الوضع الاقتصادي في أفغانستان، خلال العام 2022م. من أهمّ مؤشراته أن إيرادات الدولة اقتربت من الصفر تقريباً، وأن (23) مليون أفغاني (أكثر من نصف السكان) يمكن أن يواجهوا مشكلة نقص الغذاء بحسب أرقام منظمة الغذاء العالمية، من بينهم (3) ملايين طفل دون سنّ الخامسة.
من المؤشرات المحبطة أيضاً، أن قطاعا من العاملين في مؤسّسات الدولة، لم يحصلوا على مستحقاتهم لأربعة أشهر متوالية. واقع الحال الذي ذهبت إليه الاستشرافات الأميركية، أن الأزمة الاقتصادية هي حقيقة فرضت نفسها قبل طالبان بعقدٍ من الزمان، ومن ثمّ فهي مقبلة على البلد مع طلبان أو بدونها. من الأرقام التي يُستدلّ بها على ذلك، أن حصة الفرد السنوية في أفغانستان، تقع في آخر الخطّ البياني عالمياً، إذ لم تتخطّ (642) دولاراً عام 2012م، ثمّ انخفضت إلى (509) للفرد الواحد سنوياً عام 2020م، وإلى (350) دولاراً في العام الحالي.
أضف إلى ذلك، أن أفغانستان تعاني من عوائق القرار (1988) لسنة 2011م، الذي ما يزال سارياً، ومن تبعات تجميد الخزانة الأميركية والمؤسّسات الدولية، لمليارات الدولارات من ودائع أفغانستان، أقلها (6) مليارات، في حين يصل بها البعض إلى (9) بل (10) مليارات. إلى جوار ذلك، هناك المشكلة الناشئة عن عدم الاعتراف بحكومة طالبان، وحصر توزيع المعونات عن طريق الأمم المتحدة، وسط تعطل مؤسّساتها وغلق هيئاتها العاملة هناك، وتوقف المطارات الخمسة الرئيسة عن العمل.
أخيراً جاءت آخر صيحة بهذا الاتجاه قبل عشرة أيام، عبر الاجتماع الاستثنائي لوزراء خارجية (منظمة التعاون الإسلامي) في إسلام آباد، ودعوتها إلى إطلاق صندوق إغاثة إنساني عاجل لمساعدة أفغانستان، من دون أن نتأكد تماماً من القيمة العملية لهذه الدعوة، من خلال ما نعرفه من بيروقراطية هذه المنظمات.
 
الحركة الثرية
الكلام عن طالبان اقتصادياً، هو في حقيقته حديث عن حركة يمكن أن توصف بالثراء، إذا ما قورنت بغيرها من الحركات المثيلة. ففي واحد من التقارير السرية، قدّر حلف الناتو ثروة الحركة للعام المالي المنتهي بشهر آذار 2020م، بنحو (1,6) مليار دولار، في حين لم تكن ملكية حكومة أفغانستان الرسمية تتجاوز (5,5) مليار دولار في المدّة نفسها.
يكتسب المؤشر الرقمي هذا أهمية أكبر، من الفارق العددي الكبير بين الاثنين. فحكومة أفغانستان تدير بتلك المليارات احتياجات بلد، لا يقلّ عدد نفوسه عن (33) مليون إنسان، بينما يتراوح عدد أعضاء طالبان بين (10) آلاف كحدّ أدنى، و(60) ألف كحدّ أقصى، وثروتها تتجاوز المليار ونصف المليار دولار.
المعروف عالمياً خلال السنوات الخمس الأخيرة، أن أفغانستان تنتج وحدها 84 ٪ من (الترياك) في العالم. وقد فرضت طالبان نسبة 10 ٪ على جميع حلقات زراعة (الخشخاش) وغيره من أصناف المخدرات، وحصده وجمعه وبيعه، ومن ثمّ فالمخدرات هي المصدر الأوّل للحركة. على سبيل المثال بلغت عائدات طالبان نحو (416) مليون دولار من زراعة (الخشخاش) وتجارته، في العام المالي المنتهي بآذار 2020م، هذا عدا (الترياك) وبقية المواد المخدرة.
من مصادر الحركة، ما كانت تفرضه على التجار والأهالي القاطنين تحت سلطتها، من (أعشار) وزكوات على التجارة والفعاليات المعدنية البسيطة والمعادن المعادة، إذ لم يكن يقلّ ما تجنيه سنوياً عن (160) مليون دولار.
كانت الحركة تفرض أيضاً ضرائب مالية على الشاحنات التجارية التي تمرّ من الأراضي التابعة لنفوذها. لكن الأغرب من ذلك هو قيمة الاجارات، من العقارات التي تملكها في أفغانستان وباكستان وبلدان أخرى، وهي تزوّدها بما لا يقلّ عن (80) مليون دولار سنوياً. يضاف إلى هذه المصادر المالية المنوّعة، المساعدات المالية المباشرة التي كانت تحصل عليها الحركة من بلدان، نظير (باكستان والسعودية وقطر وروسيا والصين) وغيرها، هذه المساعدات التي قُدّرت عام 2008م بنحو (106) مليون دولار، ثمّ تطوّرت إلى نحو (500) مليون في السنوات التالية.
تقول المصادر المعنية، إن طالبان كان يمكن لها أن تنهار كما انهارت حكومة أشرف غني، لو لم تكن لديها هذه المكنة المالية، وإن كان ذلك لا يعني بتاتاً أن المال هو العنصر الوحيد، في وصول الحركة إلى قمّة السلطة في أفغانستان.
لكن إذا كانت هذه الأرصدة المتراكمة والمصادر المنوّعة، تعطي للحركة مرونة كافية في إدارة نفسها عندما كانت خارج السلطة، فهي لا تعدّ ذات بال أمام متطلبات إدارة بلد مأزوم، مثل أفغانستان، ينتقل من أزمة إلى أخرى، منذ أكثر من أربعة عقود.
 
كنوز الأرض
مع ذلك لا ينبغي أن نستخفّ بثروات أفغانستان، وكنوز البلد العظيمة الدفينة في أرضه، من نفط (بكميات قليلة حتى الآن) وغاز بكميات تجارية، ومعادن نفيسة فائقة القيمة، يمكن أن تحوّل أفغانستان إلى بلد متقدّم، لا يقلّ عن التجارب التنموية الناجحة في آسيا.
بكلامٍ رقميّ قصير، قدّرت "مؤسّسة الأرض" الأميركية منذ سنوات مضت، قيمة الثروة المعدنية غير المستثمرة في أفغانستان، بألف مليار دولار (ترليون دولار)، على حين ذهبت مصادر أفغانية مسؤولة، إلى أن الرقم الحقيقي لهذه الاستثمارات يبلغ ثلاثة أضعاف ما ذكرته المؤسّسة الأميركية؛ أي ثلاثة آلاف مليار دولار.
أما المعادن التي تحتضنها أرض أفغانستان وجبالها، فهي النحاس والذهب والأورانيوم والفحم الصخري والصخر الحديدي والبوكسيت، وعناصر نادرة مثل الليثيوم والرصاص والكروم والزنك، والصخور النفيسة مثل التالك والكبريت والترافرتين والمرمر، والجص؛ بالإضافة إلى النفط والغاز الطبيعي. على سبيل المثال ذهبت وكالة الطاقة العالمية، إلى أن الطلب العالمي على الليثيوم سيتضاعف (40) مرّة حتى عام 2040م، للحاجة الماسّة إليه في الصناعات الكهربائية والإلكترونية والعسكرية. في المقابل تُشير الأرقام إلى أن أفغانستان تملك بالإضافة إلى مادّة الليثيوم (1,4) مليون طن من العناصر الأرضية النادرة، المكوّنة من (17) عنصرا، تدخل في صناعة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية والمعدّات العسكرية.
 
الممر البري وخطّ الغاز
مررتُ على أكثر من تقرير أميركي صادر عن مراكز دراسات مهمّة، يكشف نوايا أميركية في الاستثمار داخل أفغانستان، تماماً كما هو حال روسيا وطموحاتها العتيدة في هذا البلد.
ومن دول القارة الآسيوية لا تخفي الصين والهند والباكستان وكوريا الجنوبية وإيران)، مشاريعها الطامعة في الاستثمار داخل هذا البلد. والاستثمار لا يقتصر على المعادن والصخور والثروات النفيسة المخبوءة في أرض أفغانستان وجبالها، بل يشمل أيضاً تفعيل الخصائص الجيوبولوتيكية للبلد. من ذلك المشروع الهندي الكبير المعروف بمشروع (جابهار)، ويقضي هذا المشروع بفتح ممر نقل تجاري آمن، يبدأ من الهند فميناء "جابهار" جنوب إيران، ويتجه إلى الشمال على امتداد (7,200) كيلومتراً برياً، ماراً بـ(أفغانستان وإيران وآذربيجان وأزبكستان)، ليختصر الطريق التجاري إلى أوروبا، ويفتح أسواق آسيا الوسطى.
إلى جوار مشروع (جابهار) الهندي، هناك المشروع الأميركي لنقل الغاز، المعروف باسم(تابي)ويمثل (الحروف الأولى لأربع بلدان، هي: تركمنستان، أفغانستان، باكستان، الهند)، وهو باختصار مشروع خطط له الأميركان، وتُنسب فكرة تصميمه إلى الدبلوماسي من أصول بشتونية أفغانية السفير زلماي خليل زاد، يقضي بحرمان إيران من أكبر مزاياها في تصدير فائضها الغازي الهائل إلى الخارج، ببناء خط بديل يُعرف بخطّ السلام، ينقل الغاز من بلد المبدأ تركمنستان، ماراً بأفغانستان فباكستان، ثمّ إلى الهند.
 
عين الصين وإيران
قد لا نبالغ أن عيون القوى الاقتصادية الإقليمية والدولية، تُخطّط جميعاً بأن يكون لها موطئ قدم، على مائدة أفغانستان المتنوّعة الثرية. بيدَ أن ذلك لا يعني تساوي الجميع في التخطيط والفرص والإمكانات، ومن هنا يأتي تميّز الصين، وإلى حدّ ما إيران.
لقد وقّعت الصين منذ عشر سنوات تقريباً، اتفاقية استخراج (النحاس البكر)، وهو المعدن الذي تجاوزت قيمة الطن الواحد منه، عشرة آلاف دولار، ويتمركز في ولاية لوكار على بُعد (40) كم جنوب شرق كابل،وبالفعل استأجرت الشركات الصينية عام 2007م، منجم نحاس "آيناك" لمدّة (30) سنة، واستخرجت فعلاً (11,5) مليون طن، حيث تُقدّر عائدات هذا الحقل وحده (50) مليار دولار، ومجمل النحاس بمبلغ (317) مليار دولار.
لو بقينا في حقل المعادن وحده لوجدنا مطامع إيرانية واعدة في الاستثمار. فبحسب التقديرات كان حجم التبادل التجاري بين طهران وكابل قبل حكم طالبان الثاني، يتراوح بين (1,5 - 3) مليار دولار، على اختلاف التقديرات الإيرانية، وبحسب ناشط اقتصادي إيراني، هو الصحفي المعروف والمثير سعيد ليلاز (الذي ارتبط اسمه بتسجيل اللقاء المسرّب لوزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف) أنه لا مناص لأفغانستان من التعامل الاقتصادي مع إيران، قبل طالبان ومع طالبان.بشأن المعادن فقد أفاد أحمد رضا صفار طبسي، رئيس لجنة المعدن والصناعات المعدنية في محافظة خراسان المحاددة لأفغانستان، أن أمام إيران فرص واعدة للاستثمار في المعدن.
فالوضع الإيراني صار أفضل في ظلّ حكم طالبان، وقد استتبّ الأمن أكثر، والأهمّ من ذلك إن أفغانستان تخففت من (فيتو) أميركا، في منع استثمار إيران للمعادن داخل أفغانستان.
لقد تحدّث مهرداد أكبريان نائب رئيس لجنة المعدن، إلى أن حجم الاستثمارات المتوقع لصخور الحديد وحده، يبلغ (54) مليار دولار، ويمكن أن يمنح أفغانستان فرص عمل جديدة لـ(500) ألف أفغاني، وأن المجال مفتوحاً أمام إيران، خصوصاً وأنها غير مضطرّة لدفع المال إلى أفغانستان، إزاء استثمارات الحديد، بل تقايض ذلك بالسلع والخدمات.
 
الكلمة الأخيرة
تفيد هذه المؤشرات السريعة أننا إزاء بلد غني بالقوّة فقير بالفعل، ثري بأرقام كنوزه مأزوم على الأرض. وهذا مع الأسف، ليس واقع أفغانستان وحدها، بل الكثير من البلدان الداخلة في الرقعة الموسومة بـ"العالم الثالث"، ومنها بلدنا العراق.
أفغانستان بلد ضمُر به الاقتصاد المحلي، وجرفته الحداثة، (فضيّع المشيتين)، فلا هو ربح مزايا الاقتصاد المحلي، ولا هو كسب التنمية الحقيقية، بل غرق في الاستهلاكية المدمّرة. لكي أكون واضحاً، فهذه ليست دعوة للبقاء في اقتصاد المنجل والمسحاة، ورفض التحديث، بل هي صيحة ضدّ هدر الاقتصاد المحلي على تواضعه وكفافه، مقابل استهلاكية الهدر، وقد يكفينا للتدليل على الفكرة، أن نضرب لها مثالاً بسيطاً واحداً.
لقد صدمني فعلاً أن أفغانستان كانت تجني في ظلّ الاقتصاد المحلي، من حبوب الصنوبر وحدها، مبلغ (800) مليون دولار، أي ما يقارب المليار دولار، من تجارة هذه الحبوب مع الصين، وقد عرفتُ هذا الرقم، بعد أن تعطلت تجارة هذه الحبوب مع الصين خلال الأشهر الأخيرة، ضمن ما تعطّل من فعاليات الاقتصاد المحلي.
أخيراً، نحن في أفغانستان والعراق وغيرهما، بحاجة أن نربح التنمية الحقيقية، كثمن للتخلي عن منافع الاقتصاد المحلي؛ وإلا جاءت خسارتنا مضاعفة.