۱۰۰ عام من الفلسفة في العراق

منصة 2021/12/29
...

 الدكتور حسين الهنداوي
ذلك الواقع المرير، أكدته وثائق كثيرة تناول بعضها المعاناة القاسية التي كان يتحملها طالب الماجستير في قسم الفلسفة بجامعة بغداد منها التحقيق عن كونه مع حزب البعث أو ضده، وما إذا كانت الاطروحة تمس السلطة الحاكمة، تأتي بعدها مساوئ سلطة المشرف {القريب من كل ما يجلب له المال والسلطة والبعيد عن الفلسفة.. وملاحظاته التي تفتقر الى الموضوعيَّة والعلميَّة}، تليها رقابة الخبيرين اللغوي والفكري، والأخير لا بُدَّ من أنْ يكون عضواً في حزب النظام السابق.. أما المناقشات فتجعل المرء يشفق على حال الفلسفة في العراق، إذ تبدأ دائمًا بمقدمة طويلة عن أحاديث صدام وحكمته ومثاليَّة حكمه وتنتهي بكل ما من شأنه إجهاض الطاقات الشابة الحيويَّة في مجال البحث والدراسة الفلسفيَّة.
من جانبها اعتمدت السلطات المعنيَّة سياسة قبول في الدراسات العليا متعسفة، لا تكترث بموهبة التلميذ وعلاماته ورغبته كأساس في القبول، وإنما وضعت بموازاتها لائحة شروط سياسيَّة وأمنيَّة، كالإيمان بفكر حزب البعث، وعدم كون أحد أقارب التلميذ من الأموات أو الأحياء معارضًا للنظام. وأنتجت هذه السياسات التعليميَّة واقعا أضعف الدرس الفلسفي وعلوم الانسان والمجتمع في الجامعة العراقيَّة، وبدد جهودًا مهمة أنجزها مؤسسوه}. ويروي لنا علي حاكم {مرة صادفني مدني صالح خارج قسم الفلسفة، فأوقفني، وسألني: {ما هذا؟ مشيراً باصبعه ناحيَّة بنايَّة قسم الفلسفة}.. {قسم الفلسفة}، قلت له، فردّ علي: في هذا القسم تجد كلّ شيء، إلاّ الفلسفة}.!
تلك الظروف القمعيَّة العسيرة، والضغوط المختلفة التي تعرضت لها الجامعات أثناء سنوات الحروب والحصار الجائر الذي فرض على العراقيين آنذاك مع ما رافقه من تقشف وحرمان وشظف عيش، تفسر أسباب اضطرار الكثير من كبار أساتذة قسم الفلسفة العراقيين على الهجرة للعمل في الدول العربيَّة الأخرى أو غيرها أو تفضيل العمل الحر على التدريس من أجل كسب لقمة العيش أو ما يماثلها من سبل مشروعة. وشمل ذلك الابتعاد عن التدريس حتى من هم بدرجة أستاذ مساعد أو مدرس، الأمر الذي جعل أقسام الفلسفة الناشئة خاوية المستوى بشكل مثير. ففي تلك السنوات مثلا لم يبق من أحد عشر تدريسيًا بدرجة أستاذ في قسم الفلسفة بجامعة بغداد سوى أربعة أساتذة، الأمر الذي يعني مغادرة نحو نصفهم الى جامعات أخرى، بينما فضل اثنان آخران العمل في دوائر ووظائف أخرى على البقاء في قسم الفلسفة نتيجة للظروف الصعبة التي شهدها العراق آنذاك. وكان بين المهاجرين عددٌ من الأساتذة المحالين على التقاعد وبينهم بعض الرواد المؤسسين كجعفر آل ياسين الذي هاجر الى الكويت ثم الى ليبيا، وكذلك فعل الشيبي وكريم متي حتى أنَّ {قسم الفلسفة في (جامعة السابع من ابريل) الليبيَّة غدت واحدة من أرصن أقسام الفلسفة على مستوى الوطن العربي لوجود ثلاثة أساتذة أجلاء يعملون فيه: كامل مصطفى الشيبي وجعفر مرتضى آل ياسين وكريم متي. وقد كان يتوافد عليهم باستمرار طلاب الجامعات الليبيَّة للاستشارة}.
 
آفاق نهضة فلسفية واعدة
رغم فشل الانتفاضة الشعبية االواسعة التي شهدها العراق في ربيع 1991 بالإطاحة بالنظام الدكتاتوري السابق، إلا أنها نجحت في كسر حاجز الخوف لدى عموم المجتمع ونشرت الفزع المستديم في قلوب مرتكبي الجرائم وأعمال القمع ضد المواطنين التي دأب على ارتكابها أتباع الدكتاتور الأكثر شراسة، ومنهم أولئك الحزبيون والمخبرون الذين كانت تضج بهم الجامعات والمعاهد والأوساط الفكريَّة من قبل، ومنها قسم الفلسفة بجامعة بغداد.
بموازاة ذلك وبفضل جهود وإصرار نخبة من الأساتذة والخريجين والطلاب الوطنيين، تمكن الدرس الفلسفي في العراق من تحقيق بعض النجاح التدريجي، تمثل من جهة بتطوير المناهج الدراسية الفلسفية وبفتح أقسام جامعية تخصصية أخرى للفلسفة في عددٍ من الجامعات العراقية كالجامعة المستنصرية وجامعات البصرة والموصل والكوفة والسليمانية وصلاح الدين في أربيل وواسط وكربلاء، فضلاً عن بيت الحكمة ببغداد، بينما استمر قسم الفلسفة في جامعة بغداد بتقوية مكانته الآتية من أسبقية التأسيس، ودوره السباق في تزويد أقسام الفلسفة الجديدة في المحافظات بالملاك التدريسي من حملة الشهادات العليا.
فقد تأسس قسم للفلسفة في كلية الآداب بجامعة البصرة عام 1990 أي بعد نحو ربع قرن من تأسيس الكلية وكذلك الجامعة في 1964. ثم تأسس قسمٍ للفلسفة في جامعة الكوفة عام 1991، والذي أعلن عن أنَّ رسالته هي أنْ يكون للفكر الفلسفي دورٌ فاعلٌ في رفد المجتمع بطاقاتٍ واعية تعي مسؤولياتها في بناء البلد على أسسٍ حضاريَّة وتحارب آفات الجهل والخرافة والفساد في كل مفاصلها وتعيد للعراق دوره الحضاري، مع التشديد على أنَّ الدراسات العقليَّة والفلسفيَّة تساعد في إشاعة ثقافة التسامح والحفاظ على نقاء العقيدة الإسلاميَّة من الغلو والتطرّف وحمايتها من كلِّ فكرٍ منحرفٍ، وفي تعزيز أواصر الروح الوطنيَّة وتماسكها في العراق، وترسيخ قيم التعايش السلمي بين أبنائه، فضلاً عن إعداد الملاكات التدريسيَّة المتخصصة في الفلسفة.
كما تأسس قسـم للفلسفة في جامعة الموصل في العام الدراسي 1994 - 1995" ، ويمنح شهادة بكالوريوس آداب في الفلسفة. وسبقه في النشوء قسم الفلسفة في الجامعة المستنصرية، الذي أعلن عن ولادته في العام 1993، وقد استطاع تخريج أولى دوراته في الدراسة الأولية للعام الدراسي (1996 – 1997) لتتوالى بعد ذلك دوراته محققًا تميزًا ونجاحًا يتواصل منذ سني تأسيسه 
الأولى. 
وفي العام (2002 – 2003) بدأ القسم في فتح الدراسات العليا، إذ استقبل المتقدمين لدراستي الماجستير والدكتوراه في حقول الفلسفة المختلفة واستطاع تخريج عددٍ متزايدٍ منهم، وقد ضم البعض منهم ضمن ملاكه التدريسي ليواصلوا مسيرة العطاء العلمي. ونتيجة للإقبال على القسم فقد تم فتح الدراسات المسائية فيه بعد 2003 ليقدم خدماته لشرائح المجتمع المهتمة بالفلسفة وليس بإمكانها الانخراط في الدراسات الصباحيَّة.
الى جانب أقسام الفلسفة القائمة بذاتها تلك، قررت كلية أصول الدين الأهلية المسائية، وقسم اللغة العربية في جامعة المستنصرية، وكلية الدراسات الإسلامية سابقًا، وكلية الشريعة قيامها بتدريس مواد فلسفيَّة مثل علم الكلام والفلسفة اليونانية أو بعض هذه المواد بأسلوب يتكيف مع مناهجها في الغالب وخصوصًا بالنسبة لكلية الدراسات 
الإسلاميَّة.
هكذا تشكلت الأرضيَّة المناسبة لنمو وتقدم التخصص الفلسفي المعاصر في العراق بعد أنْ أخذ مساحة واسعة من الانتشار بين الكليات والجامعات العراقية وأصبحت الثقافة الفلسفية معروفة ومقبولة نسبيًا بين أوساط الطلبة، لا سيما بعد إقرار دراستها ضمن مناهج المرحلة الثانوية بغرض أنْ تأخذ الفلسفة مكانتها ودورها الحقيقي في حياتنا التعليميَّة والثقافيَّة برغم أنَّ الغرض من دراستها في المرحلة الثانوية لا زال غير متحققٍ بالشكل المستهدف بفعل أنَّ تدريس الفلسفة في معظم مدارس المرحلة الثانوية في العراق يتولاه مدرسون من اختصاصات لا علاقة لها بالفلسفة غالبًا كالتاريخ واللغة 
العربيَّة.
وأسهمت المجلات الفلسفيَّة العراقية لا سيما مجلة {دراسات فلسفية} التي يصدرها قسم الدراسات الفلسفية في {بيت الحكمة} وكذلك المؤتمرات الفلسفية التي تعقد دوريًا بنشاط متميز في نشر وتعميق العطاء الفلسفي العراقي في السنوات الأخيرة نظرًا الى سعة وجرأة الرؤى التي تتبناها الى جانب فاعليتها كوسيلة لإشاعة الفكر العلمي والنقدي والحوار الفكري من خلال التعريف بالفلسفة وحقولها المعرفية وأساطينها من الشرق والغرب، والتأكيد على توكيل مهمة التدريس فيه الى أساتذة لهم ثقلهم العلمي والفلسفي على مستوى 
العراق.
وقامت الجامعة المستنصريَّة أيضا بدورٍ رائدٍ في هذا المجال عبر جهودها المتميزة منذ 2002، بإقامة المؤتمر الفلسفي الأهم الذي تقيمه كلية الآداب في جامعة المستنصرية كل سنتين باسم (مؤتمر العراق الفلسفي) والذي بلغ عدد دوراته تسع دورات حتى عام 2019 بمشاركة عددٍ متزايد الكفاءة من الباحثين والتدريسيين القادمين من مختلف الجامعات العراقية والعربية والدولية. 
وبالإضافة الى سعيها لتنشيط الفكر الفلسفي تسعى هذه المؤتمرات كي تكون حلقة تواصل بين أساتذة الفلسفة والمهتمين بالشأن الفلسفي، ومحركاً لدفع مؤسسات الدولة المعنية ومنها وزارة الثقافة وهيئة الإعلام والاتصالات بالترويج للحوار العقلاني كسبيلٍ ناجعٍ لفض مشكلات المجتمع، وأهمية الاستعانة بمؤلفات الفلاسفة الداعية لقيم التسامح والتعايش وجمع شمل الأمة.
كما أنَّ الموضوعات المطروحة للنقاش والتوصيات المتخذة في هذه المؤتمرات تعكس لأول مرة تطلعات المجتع العراقي وليس أفكار السلطة الدكتاتورية أو هذيانات صدام حسين أو ميشال عفلق كما كانت الحال في زمن النظام السابق. فعلى سبيل المثال أقيم مؤتمر العراق الفلسفي الثامن عام 2017 تحت عنوان (الفلسفة والإصلاح) وتضمن محاور شملت الفلسفة والإصلاح التربوي، والفلسفة والإصلاح السياسي، والفلسفة والإصلاح الديني، والفلسفة والإصلاح الإجتماعي، والفلسفة والبيئة، وفلاسفة ومفكرون مصلحون، حيث قدمت في المؤتمر ما يقارب الثلاثين بحثاً متخصصاً، بينما خرج المؤتمر بالعديد من التوصيات التي تمحورت حول كيفيَّة تحقيق الإصلاح على أرض الواقع وتحويل البحوث النظرية إلى واقعٍ ملموسٍ يمكن تطبيقه.
أما البحوث المقدمة الى مؤتمر العراق الفلسفي السادس المنعقد في تشرين الثاني من العام 2013 بالجامعة المستنصريَّة، فقد ركزت على تفعيل موضوعة توظيف الفلسفة في المجتمع، والتأكيد على أنَّ الفلسفة مهمة جداً في تأكيد الحاجة إلى عقلٍ يتحاور مع المجتمع سعيًا الى بلورة أدوات تطوير النظام السياسي العراقي الراهن حيث ناقش المؤتمر أكثر من عشرين بحثاً أكاديمياً تحت عنوان (الفلسفة والتغيير: نحو مجتمع مدني أفضل)، حاول بعضها أنْ يطرح أهم القضايا التي تلامس المجتمع العراقي من أجل إعادة قراءتها فلسفياً، ومن ثم طرح أساليب التقارب بين الفلسفة والمجتمع، وهو ما قدمته عدد من البحوث، بينما درست بحوثٌ أخرى كيفيَّة الحلول التي يمكن النهوض فيها بمجتمع أفضل، وإعادة قراءة الواقع الاجتماعي والثقافي للدرس الأكاديمي في سبيل تطويره.
وللمقارنة بين مستوى حريات التعبير خلال العهدين نلاحظ أنَّ معظم الأطروحات الفلسفية التي قدمت لنيل الماجستير أو الدكتوراه خلال فترة النظام السابق كانت تدور حول قضايا تسمح بها الطغمة الحاكمة وتدور غالبًا حول فلاسفة يونانيين أو مسلمين قدماء أو متصوفة أو حول قضايا عامة ومجردة كفلسفات الطبيعة والسعادة والزمن، بينما تركز الأطروحات المماثلة حاليا على قضايا تمس الحياة السياسية والاجتماعية وإشكاليات التغيير ومشكلات الخطاب السياسي الديني أو الطائفي أو صراع الهوية وطبيعة الدولة من التوليتاريَّة إلى التغيير وغيرها من البحوث التي حاول الأكاديميون من خلالها تقديم تصور عن آفاق التغيير في مجتمعٍ دخل تجربة جديدة عليه كالمجتمع العراقي. لكنَّ الأهم من هذا بعض البحوث التي سعت لطرح تصوراتها عن الدرس الأكاديمي في سبيل إخراجه من جموده وطرحه داخل قاعة دراسيَّة مغلقة إلى مجتمعٍ يمكن أنْ يهتم بالفلسفة لتكون إحدى أساسيات تفكيره وتطوره.