فيلم «عالم آخر» حبكة متقنة وجماليات متعددة

الصفحة الاخيرة 2022/01/03
...

  عبد الكريم قادري*
فكك المخرج الفرنسي ستيفان بريزي في فيلمه الأخير «عالم آخر» (96 دقيقة، 2021) موضوعاً غاية في الأهمية، يتعلق بشكل أساسي بمشكلات الراهن، وهي العلاقة بين الموظف والمؤسسة المالية أو أرباب العمل بين الرأسمالية التي لا تؤمن سوى بالأرقام والأرباح وبين العمال الذين لا يبحثون سوى عن الأجور المحترمة والاستمرار في العمل، وهي علاقة حسب طرح المخرج فوضوية وغير سوية، نتيجة نظرة كل جهة الى الاخرى بريبة وشك متواصل، خوفاً من أن ينقض طرف على طرف، ومهما كانت شدة هذه المواجهة حسب طرح الفيلم، فالرابح دائما هو المؤسسة المالية المتوحشة التي تناور وتحوك المؤامرات لتقويض العمل النقابي وتغييب دوره في الدفاع عن حقوق العمال والموظفين.
سلّط ستيفان عدسة كاميرته التي أدارها (إريك دومون) انطلاقاً من سيناريو (أوليفييه جورس) الذي تعاون فيه مع المخرج، على شخصية المدير التنفيذي الأول لاحدى الشركات العالمية، وهو فيليب (فنسان ليندون) الذي يجد نفسه غير قادر على تلبية المطالب المتناقضة لرؤسائه، لهذا تتعقد العلاقة بينه وبين العمال من جهة ومن جهة ثانية بينه وبين زوجته آنا لوميسيل (ساندرين كبرلاين) التي تقرر تركه بعد أن تعقّدت هي الاخرى حياتها نتيجة انتقال ضغط العمل الى البيت والتأثير في 
الأسرة بشكل مباشر، ليصل فليب إلى نقطة الانهيار والفوضى بعد وصوله لنقطة محورية في حياته العملية، وهي أن يواصل العمل وجني الأرباح بشرط أن يدوس على ضميره وحياته وأسرته، او أن تتم التضحية به من طرف رؤسائه وتحويله لكبش فداء من
أجل اسكات النقابات العمالية، من هنا يجد نفسه في مفترق الطرق، ويجب عليه اختيار الطريق المناسب، تحت ضغط طلاق الزوجة والمرض العقلي الذي أصاب ابنهما (أنثنيو باجون)، وهي احالة ذكية من المخرج بأن هذه المعطيات، سببها الاول هو ضغط العمل المستمر الذي ولّد جملة من المآسي وحطم حياة العديد من الأسر بشكل مباشر وغير 
مباشر. 
عُرض فيلم «عالم آخر» في الدورة الـ 78 لـ «مهرجان فينيسيا السينمائي» في (1 ـ 11 سبتمبر/ أيلول 2021) ، كما شارك في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الخامسة (14 ـ 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021) لـ «مهرجان الجونة السينمائي»، وتكمل أهمية هذا العمل من الناحية الفنية والجمالية من خلال السيناريو المحبوك، والذي ذهب الى التفاصيل الصغيرة وتعامل معها بدقة متناهية، لهذا عندما تم التجميع والمونتاج عن طريق (آن كلوتز) شكل هذه اللوحة النهائية، انطلاقا من الخط السردي الذي شكله العامل النفسي والضغط المستمر حول فليب، أو المعالجة الاخراجية لستيفان بريزي الذي ضمن الانسجام والتناسق وتبرير كل مشهد درامي في السياق المناسب، كما استطاع أن يسير الممثلين بمسؤولية ويستخرج أفضل ما فيهم من مواهب وقدرات، كالممثل الفرنسي الكبير فنسان ليندون الذي أسبغ على دوره هالة كبيرة ومقنعة، خاصة ان الشخصية التي لعبها تحتاج الكثير من الجهد والعمل والاجتهاد، لأنها تتعلق بشكل أساسي بالعامل النفسي الذي يشكله الانهيار والتحطم وفوضى الخيارات وحسمها، لكن في المقابل عليه أن يكون صلباً ويحافظ على مصالح مؤسسته
وعماله، وأكثر من هذا أظهر هذه العواطف على ملامح وجهه وطريقة تصرفاته من دون أن يقع في المبالغة او الأداء الكلاسيكي، وهذا ما حدث أيضا مع الممثلة ساندرين كبرلاين التي أدت دور المرأة الكئيبة المنهارة التي تعقدت حياتها ومر عليها قطار العمر أن تستقل بشخصيتها، وكانت دائما رجع صدى لزوجها الغائب عن البيت والذي ينقل لهم ضغط العمل ومتطلبات الوظيفة، وقد كان هذا الدور مقنعا ولم يخلق أي شرخ بين الشخصية ودور الممثلة.   
فيلم «عالم آخر» أو كما جاء في العنوان الفرنسي الأصلي (Un autre monde) عمل يحمل هم الحاضر، ويبحث في مشكلات الانسان المعاصر الذي بات يعمل تحت ضغط رهيب، ويذهب صوب الأخلاق التي تحاول الشركات الكبرى أن تدوس عليها، واكثر من هذا تعمل جاهدة على تجريد المدراء
التنفيذيين الذين يعملون تحت امرتها من الوازع الانساني، حتى يسهل التحكم فيهم لتمرير أي مشروع عزل أو ضغط أو تسريح للعمال البسطاء، ليختار المخرج ستيفان بريزي في هذا الفيلم الجهة التي يدافع عنها، وهي فئة العمال المقهورة، وينتصر للنقابة ودورها المهم في ضمان استقرار المؤسسات والمصانع، واكثر من هذا يشجع على أخلقة العلاقة بين العامل والمؤسسة التي يعمل فيها، وهي المعطيات التي لا يفضلها أرباب العمل، لأنها حسب منطقهم تضر بسير المؤسسة ومؤشر 
الربحية.  
ستيفان بريزي مخرج وممثل فرنسي ولد عام 1966 في رين، وبعد حصوله على شهادة جامعية في التكنولوجيا، في مجال الالكترونيات، عمل فني تلفزيون في باريس، والتحق في الوقت نفسه في صف لدراسة الدراما، وبعد ذلك بدأ في إخراج المسرحيات، وأخرج فيلمه القصير الأول “بلو دوماج” سنة 1993، ثم أول فيلم متوسط الطول “العين التي تخرج”
عام 1996، قبل أن يبدأ بإخراج الأفلام الروائية الطويلة في عام 1999 مع فيلم “زرقة المدن”، وفي عام 2013، عاد بفيلم “بضع ساعات من الربيع”، وهو روائي طويل من بطولة فنسان ليندون وهيلين فنسان، وحصل الفيلم على أربعة ترشيحات لجائزة سيزار عام 2013: أفضل مخرج، أفضل ممثلة، أفضل ممثل، أفضل سيناريو
أصلي.
 
 * ناقد سينمائي وكاتب جزائري