العقل التهويلي

الصفحة الاخيرة 2022/01/08
...

جواد علي كسار
لكي لا يعترض زملاؤنا المعرفيون ومنهم صديقنا العزيز صلاح الجابري، فلا أقصد بـ«العقل» هنا مدلوله المعرفي، إذ ليس لدينا سوى عقل واحد فقط. لكن بحسب المدركات أو الاختصاص الإدراكي، نصنّفه إلى عقل نظري، وعملي، وأخلاقي، وثقافي وسياسي وهكذا.
كما قد نطلق وصف العقل ونقصد به هيمنة نزعة ثقافية عليه، كما في قولنا «عقل البداوة»، و«عقل الحضارة» و«عقل غربي» و«عقل شرقي»، و«عقل تبخيسي» و«عقل تبجّحي» إلى آخر الانتزاعات التجريدية التي نلجأ إليها، في صياغة المفاهيم، من أجل المعرفة والفهم والتحليل والتفسير.
العقل التهويلي، هو استعمال من النوع الثاني، 
ونقصد به جنوحنا إلى نزعة المبالغة والتهويل؛ هذه النزعة التي تبرز في كلام وسلوك وثقافة الغالبية العظمى منا، كعراقيين. فنحن نميل إلى التهويل في أحزاننا وأفراحنا معاً، ونسرف في العداء إذا 
اختلفنا مع بعض، ونبالغ في المودّة والثناء إذا أحببنا أحد.
نسرف في الولاء السياسي للأحزاب والشخصيات والرموز، ونتطرّف في العداء لها، ومبالغتنا واضحة في أداء الشعائر الدينية حين نكون متديّنين، ومعاداتها بقسوة حين نُناوؤها وننفلت من الالتزام بها.
نعاتب ونلوم ونقرّع زوجاتنا وأولادنا بقسوة بالغة، ونسرف في الغنج والدلال حتى نترك لهم الحبل على الغارب.
نبالغ بطريقة أسطورية مذهلة في تضخيم المخاطر، والحوادث العادية التي تمرّ ببلدنا ومجتمعنا، مما يشهده أي بلد، أو بالعكس نخفض من أخطار مهمّة ممكن أن تدمّر مجتمعنا واقتصادنا وبيئتنا وإنساننا وبلدنا، ونمرّ عليها مرّ الكرام.
العقل التهويلي والسلوك الناشئ عنه، يُربك أولوياتنا، ويقدّم ما هو هامشي، ويؤخّر ما هو أساسي. 
والثقافة التهويلية هي كالتنور تخمد ناره إذا لم تمدّه بالوقود، ولذلك لن تكفّ هذه الظاهرة عن استنزاف طاقتنا ورصيدنا، إلى لحظة الممات، لنكتشف 
آخر المطاف أن شوطنا في الحياة انتهى، من دون تحقيق مكسب يُذكر لأنفسنا ولأسرنا ومجتمعنا وبلدنا.
يُعيد مفسّرو التهويل من معرفيين ونفسيين واجتماعيين؛ هذه الظاهرة إلى البيئة العراقية القاسية، وإلى البداوة، وتراكم الظلم تأريخياً، وقمع الأنظمة وشيوع الجهل؛ وكلها عوامل منقوضة بغيرها، ويبقى الثابت الوحيد الذي يغلب على حياتنا، هو ثقافة التهويل؛ فكيف نضع لطغيانها حداً؟!