علي حمود الحسن
عمود كتبته تحية للمخرج داود عبد السيد، الذي اعتزل العمل في السينما مؤخراً، فأعاده الجمهور بتفويض منه، وهذا في تقديري أفضل تكريم لمخرج كرس نفسه لهموم الناس، صفحة "سينما" تحتفي بالمخرج الكبير من خلال فيلمه الفريد "الكيت كات"(1991) الذي مثل فيه محمود عبد العزيز، وادار تصويره محسن احمد ووضع موسيقاه راجح داود ولحن أغانيه سيد مكاوي.
قصة "الكيت كات" يختلط فيها الواقع بالخيال، بطلها الشيخ حسني الأعمى (محمود عبد العزيز)، الذي لا يريد أن يصدق أنه فاقد للبصر، فهو يتصرف كأنه "مفتح" ساعده على ذلك شغفه بالحياة وتعلقه بها، يعيش مع أمه وابنه يوسف في بيته في حارة الكيت كات، ويرتزق من ايجاره للمقهى التي يملكها، توفت زوجته مبكراً فتركت شرخاً في حياته، يداري حزنه العميق بالغناء والفرفشة، وجلسات الكيف الصباحية في دكان يمتلكه، ويسخر من الجميع حتى من نفسه ويراقب الحارة وناسها فيعرف أسرارهم وخباياهم.
بعد "التتر" وأغنية سيد مكاوي الساحرة "البلبل غنى على ورق الفلة"، التي صاحبتها، وفي مشهد ليلي خارجي وبلقطة طويلة بزاوية منخفضة، نتابع دخول أرجل شرطيين يجوبان الحارة، بينما نسمع أصوات شلة المساطيل وأهالي الكيف والأنس يقودهم الشيخ حسني بصوته الشجي المصحوب بسعال وقهقهات "شلة الأنس"، تنفتح الصورة على الحارة التي بدت بإضاءتها واللون الأزرق الطاغي عليها باردة وموحشة، اذ أبدع مدير التصوير المتميز احمد محسن في خلق أجواء غرائبية، فكأن الشرطيين بزيهما الأسود و"بسطاليهما الأبيضين " دميتان مسيرتان، فهما يسيران بطريقة ميكانيكية، ويقتربان من دكانة الشيخ حسني وصخبها، من دون الاهتمام بما يجري، وبذلك أدخلنا عبد السيد في لعبته البصرية، فنحن إزاء حكاية، كما هي الحياة كوميديا سوداء.
راهن عبد السيد على الممثل محمود عبد العزيز، الذي نجح في تجسيد شخصية الشيخ حسني الأعمى الفصيح والذكي، الذي يخفي أحزانه ويداريها بالغناء والكيف والسخرية، وقبل ذلك ولعه بالتلصص، اذ كانت ملامحه تعبر بشكل مبالغ فيه، من خلال حركة العيون والفم وحركات اليد وردود الأفعال غير المتوقعة، لا سيما أنه يتصرف كمن يمتلك البصر، وكانت تلاوين صوته تعبر عن شخصيته المركبة، فهو حزين وأحياناً متهتك، وحشاش يسعد أصحابه، قدم عبد العزيز كل ذلك بأداء مبهر فاستحق أن يكون دوره هذا هو الأفضل في السينما العربية.
يطعم عبد السيد أفلامه بمشاهد قد تبدو غير واقعية، لكنها مقبولة ومهضومة ضمن سياقها السردي، بل تضيف إلى مبنى الفيلم فتنة وحيوية وتكسر قتامة الأحداث وايقاعها الحزين، فمغامرة الشيخ حسني وهو يركب الدراجة النارية ويمرق بها كالقضاء المستعجل في سوق الحارة وأزقتها الضيقة، احد أجمل المشاهد المرحة، التي تذكرنا بالواقعية السحرية، او في مشهد نراه يقود ضريراً موهماً إياه بأنه يرى، ويصحبه إلى السينما، قاصاً عليه أحداثاً مختلقة، باعتبارها حكاية الفيلم، او اللقطات التي يظهر فيها الشيخ حسني في عزاء، وهو يكشف أسرار أهل "الكيت كات" وفسادهم، ولأن مكبر الصوت مفتوحاً، أصبح الكلام علنياً وسمعه الجميع، والطريف أنه كشف علاقة ابنه يوسف بفاطمة المطلقة، هذه المشاهد المغتربة، كافية لأن تطيح بأي بناء سردي تقليدي، فالجمهور يريد التماهي مع الأحداث ولا يستسيغ كسره، لكن داود عبد السيد وظف هذا النوع من الفانتازيا، ليصدم المشاهد ويعمق فعل الشخصية، فلو لم يكن الشيخ حسني قد فعل ذلك، لكان هذا السلوك نشازاً.