عبد الكريم قادري
استطاع المخرج المكسيكي ميشيل فرانكو أن يحقق العديد من الإنجازات السينمائية رغم قصر تجربته (سنه 42 عاماً)، فقد سمح له التكوين الجيد الذي تلقاه من أكاديمية نيويورك السينمائية أن يكتسب مرجعية قوية، بعد أن تحصل منها على شهادة في الإخراج السينمائي، لتنطلق بعدها رحلته في هذا العالم، وأنجز خلالها أفلاماً مهمة عكست موهبته في هذا المجال، مثل: "دانيال وآنا" (2009)، "بعد لوسيا" (2012)، "للعيون" (2014)، "مزمن" (2015)، والذي فاز بجائزة أفضل سيناريو من مهرجان كان السينمائي، وهو من الأعمال المهمة، اذ كرّس من خلاله اسمه، إضافة إلى فيلم "ابنة أبريل" (2017)، و"نظام جديد" (2020)، الحاصل على جائزة الأسد الفضي (جائزة لجنة التحكيم الكبرى) من مهرجان فينيسيا السينمائي 2020، ليأتي فيلمه الأخير "غروب" (83 دقيقة، 2021) ليؤكد مرة أخرى بأنه مخرج صاحب موهبة ورؤية وبصمة خاصة.
يتتبع الفيلم خطوات الرجل البريطاني الثري نيل بينيت الذي يقضي عطلته مع أسرته في منتجع فاخر في أكابولكو، حيث يستمتعون بوقتهم، بأجواء السباحة والبحر والشمس، حتى تأتي مكالمة هاتفية واحدة تحطم مثاليته وتقلب الأمر رأساً على عقب، حدثت وفاة في الأسرة، ويتوجب عليه هو وأخته أليسون والأطفال العودة إلى لندن لتنظيم مراسم الدفن، لكن نيل يدّعي في المطار بأنه نسي جواز سفره، وهكذا تذهب أسرته ويبقى، ليطول الوقت وتحدث بعدها وقائع أخرى أشد ألماً، وقد شارك الفيلم من خلال هذه القصة اللطيفة المعالجة بطريقة ذكية في العديد من المهرجانات السينمائية العالمية، من بينها مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الخامسة (14 ـ 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021) لـ "مهرجان الجونة السينمائي"، وفوزه بفضية هذه المسابقة، كما عرض في القسم الموازي (سينما العالم) بأيام قرطاج السينمائية في الدورة الـ 32 (30 أكتوبر/تشرين الأول ـ 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2021).
ينتصر المخرج وكاتب السيناريو ميشيل فرانكو في هذا الفيلم لجوهر الإنسان وقيمته، بعد أن استخرج ما فيه من سواد راكمته التجارب المختلفة والقراءات الخاطئة للمحيط والأسرة والمجتمع والحياة ككل، ولكن رغم هذا تبقى هناك أماكن نقية يصعب الوصول لها، وفرانكو من خلال لمسته الذكية وصل لها ونقلها للمشاهد، عن طريق شخصية نيل بينيت (توم روث) الرجل الذي يعاني في صمت، وينتظر وفاته الحتمية بعد أن اشتد به المرض العضال، وقد حافظ على سره وحده حتى لا يزعج اخته أليسون (شارلوت جينسبورج) التي تشاركه في ميراث كبير، أو ابنيها اللذين يحبهما كثيراً، كما أراد أن يستمتع بما تبقى له من عمر، لهذا لم يسافر مع اخته إلى لندن لحضور مراسم دفن امه، وقد نفدت حججه فيما بعد، لهذا عادت له أخته مع المحامي، وأرغمه بأن يمضي معها عقداً يتنازل فيه عن حصته في الميراث، وقد وافق على هذا، لكن عند رجوع اخته للمطار تتعرض عصابة مكسيكية لها وتحاول اختطافها، وتحدث مقاومة مع السائق وتموت، لتتجه أصابع الاتهام إلى أخيها، لأنه الوريث الشرعي، كما أن هناك من شاهد أفراد العصابة برفقته، لأنه لم يسافر طبعاً، لهذا تم نقله للسجن، وبعد ضغط من محاميه حتى يعطيه سبباً مقنعاً يثبت براءته، أقر له بالمرض وهذا ما أطلق سراحه، ليعيش بعدها برفقة صديقته المكسيكية الفقيرة، بعد أن اشتد عليه المرض وحاصره من كل جهة.
"التضحية" كقيمة أخلاقية وإنسانية استطاع أن يصل لها فرانكو الذي أظهر بأنه كاتب سيناريو دقيق زيادة على موهبته في الإخراج، وهذا ما عكسته طريقة البناء الهندسي للقصة وتقديم المعلومة وفقاً لسياق احترم فيها المبرر الدرامي والإثارة والتشويق وتقديم أحداث يعجز المشاهد على التنبؤ بها، من هنا تتوزع تلك الجماليات التي ولدتها الـ "ثيمة" وحتى الجماليات البصرية التي ولدتها كاميرا (إيف كاب) التي ضبطت زوايا العديد من الكادرات المهمة التي خلقت راحة بصرية انعكست ايجاباً على الراحة النفسية، مثل صور البحر وامتداد مائه، وجمالية الأشياء البسيطة التي تعكسها العوالم الكادحة، اضافة إلى العديد من المعطيات الاخرى التي شكلت في مجملها هذا الفيلم المتماسك والقوي، مثل المونتاج: (أوسكار فيجيروا خارا، ميشيل فرانكو)، أي أن المخرج ميشيل فرانكو جهّز كل عناصر ومعطيات الفيلم لخدمة فكرته الأسمى، وهي التضحية في أكمل صورها وأتمها.
ومن أهم المعطيات التي رفعت الفيلم وحافظت على الشحنات العاطفية التي فيه هو الكاستينغ القوي الذي عكسه كل من تيم روث، شارلوت جينسبورج، إيازوا لاريوس، هنري جودمان، ألبرتين كوتينج ماكميلان، خاصة تيم روث الذي أثبت بأنه ممثل مقتدر وقوي ويمتلك شخصية سينمائية يمكن أن تنجح كل عمل، وهذا ما يدل على تمسك المخرج به، لأنه سبق وأن عمل معه في الكثير من الأفلام المهمة، خاصة تلك التي تحمل همّاً إنسانياً مثل فيلم "مزمن" التي أشرنا له أعلاه، ولقد أدى فيه روث دور شخصية (دافيد) الذي يعمل ممرضاً متخصصاً مع الحالات الصعبة للمرضى، اضافة إلى أفلام اخرى، وهو ما جعل المخرج يتمسك به، ليكون فيلم "غروب" من الأفلام المهمة التي صدرت سنة 2021، ونظراً للقيمة الانسانية التي يحملها وكم المشاعر المتناقضة التي فيه، يضع الانسان في مواجهة مباشرة مع انكسارات الروح والعدم.