بيروت صانعة المسرات

الصفحة الاخيرة 2022/01/30
...

د. جواد الاسدي

حطّت الطائرة على سجادة ماء رطبة في مطار بيروت، وسط عاصفة ثلجية أربكت الركاب بعد مطبات جوية لئيمة، بعد فترة وجيزة، أقلنا سائق التكسي الذي كان ينتظرنا الى شارع الحمراء، ها أنذا في بيروت ثانية، بأناقتها وحيوية ناسها، صانعو البهجة المرّة، هاهو الحمراء بموروثه الحر الغني، يستفز مخيلتي بمحمود درويشه وفيروزه وادونيسه وزياد الرحباني وانسي الحاج وبول شاؤول  وقائمة تطول من رموزه الوضاءة. 
إذ بدت المطاعم المنشرة بين أركان شارعي بدارو والجميزة في أوج ايقاعها الانساني، على الرغم من احتضار الليرة اللبنانية نراها تغص بالزبائن، وكأن زياد الرحباني ينشد في ذلك المطعم: الجوع كافر، وجاهدة وهبة تغني: انا صار لازم اودعكم، وكثير من الفتيان الذين احالوا وجع ومرارة انفجار المرفأ الى حراك غنائي ومسرحي، وكأنهم يعاقبون الانهيار الاقتصادي بمسرات وتوثب وتفجر في عروض مسرحية هنا ورسوم على الجدران هناك، حيث تحول الانسان اللبناني الى مارد يكنس الآلام والعوز والظلمة بعناد ومشاكسة وقوة غير مسبوقة لإعادة كتابة الحياة، وأظن هذه هي الميزة الاسطورية لشعب لبنان في القدرة على لي عنق الجحيم وتحويله الى أمل وحب وارواح، تصنع مفردات حياة فيها الكثير من رسوخ مدني انساني، يسد الطريق على تكرار الخيبات.
اللبنانيون متمرسون على غرس نبتة الجمال في أماكن حولتها الانفجارات الى رماد، وكأنهم يعيدون إحياء موروث اليونانيين والبابليين مثل شاعر فذ، يعيد كتابة الرماد والنهوض من الغرق نحو الصعود الى غرس نبتة الحرية وخبز العافية، كأنما هناك ثمة بيان جمالي وشعري يكتبه اللبنانيون بالكترا وانتيغونا وهاملت وكلكامش،  يلونون الظمأ بأحمر شفاه النسوة وغنجهن الانوثي المتفرد، امهات العواصف وزوجات المذابح وعشيقات الحرية، وانا اتقصى دروب بيروت، يكتبني نص درويش .. بيروت خيمتنا.. بيروت نجمتنا.
البارحة بكيت فالح عبد الجبار في شارع الحمراء، مثل يتيم مكسور الجناح، انتابني احساس بالوجع والمرارة عندما تسمرت امام بابه، كيف يغادرنا خلاّق وباحث وانسان فذ مثلك ياصديقي؟، لماذا عجلت في سفرك الطويل وتركتني في الوحشة القاتلة حتى هذه اللحظة؟، حتى أني كلما دخلت مقهى ومشيت في شارع وذهبت الى فيلم سينما، أشعر أنك معي، فتسكنني غصة كبيرة تعصف بجسدي.
بيروت كانت وستبقى ملاذا ورحما روحيا لحياتنا، كما كان الحال مع درويش والبياتي وسركون بولص وفاضل عزاوي وجبر علوان وزهير الجزائري وآخرين.
مررت على مسرح بابل في الحمراء، كأنني متّ عند مدرجات المسرح الذي ساكنته أكثر من خمسة عشر عاما، وقدمت فيه عروضي المسرحية وأعمالا لاحصر لها مع عدد كبير من الفنانين اللبنانيين والاوربيين، مسرح بابل كان منتهى مسرتي ولذتي في بروفات شكلت حياتي بعشق وتبتل وحنو،  قدمت فيه مسرحيات "نساء الساكسفون" و"حمام بغدادي" و"نساء في الحرب" وووو.  كانت حياتي في بيروت شديدة العذوبة واقبال الناس على المسارح بشغف غير مسبوق، قد شكل عمق العلاقة مع الناس، بحواراتهم واقبالهم الحار. 
 الصحفيون في جريدتي "السفير" و"النهار" كانوا طليعة شعرية وجمالية في اعطاء المسرح اللبناني مكانته الكبيرة بين الشعوب، إنها بيروت محطة الأصدقاء ومفتاح الذكريات.