علي حمود الحسن
شاهدت قبل أيام فيلم "البطل"(2021)، او "قهرمان" للمخرج الايراني أصغر فرهادي، الذي انتظرته طويلاً، فأنا أصلاً مغرم بأفلام صاحب "انفصال"، و"البحث عن ايلي"، و"الماضي"، لأسباب منها : واقعيته الاجتماعية الخالية من العيوب، وقدرته الفائقة على سرد الحكاية، التي غالباً ما يكتبها بنفسه وبطريقة مشوقة، مضفياً على شخصياته المأزومة، التي تتحرك في أماكن محدودة وصغيرة، إمكانية كسبها التعاطف والحيوية في التحولات السردية، موظفاً حواراً ذكياً مولداً لقيادة هذه التحولات، وهذا يعود- مثلما صرح فرهادي أكثر من مرة- إلى أنه "كان أصلاً كاتباً ومخرجاً مسرحياً قبل مجيئه إلى السينما، وهذا ما نجد تطبيقه في فيلم "البطل".
يحكي الفيلم قصة السجين رحيم سلطاني الخطاط والرسام الذي طلق زوجته وترك ابنه المعاق في حضانة أخته، إذ يحصل على إجازة لمدة يومين يحاول فيها تسوية دين لعديله الذي أُدخل السجن لعدم قدرته على التسديد، وتخبره حبيبته وزوجته المستقبلية فرخندة (سحر جولدست)، إنها وجدت ذهباً في حقيبة نسائية، وبدلاً من بيعه ليسدد الدين، يرجعه إلى صاحبة الشأن، ويتحول إلى بطل وطني وتستغل إدارة السجن الحدث لتبيض وجهها، فتلتقيه الصحافة وتوفر له جمعية خيرية وظيفة وتجمع له مبلغاً، ويصبح نجماً في شبكة التواصل، لكن هنالك من يشكك بقصته، لا سيما أن صاحبة الحقيبة اختفت ما يضطره إلى الكذب وادعاء زوجته أنها صاحبة الحقيبة، ويكتشف أمره ويجلل بالعار، فيسنده زوج أخته وحبيبته وأسرته ويخذله الجميع، ولم تشفع براءته وابتسامته الأخاذة، أو عوق ابنه الصغير في اثبات وجهة نظره، لينتهي إلى السجن، وبين خروجه ودخوله نكتشف خبايا وأسرار شريحة عمال وطبقة متوسطة إيرانية، شغف المخرج بالنبش في آمالها وأحلامها.
منذ المشاهد التأسيسية مهد فرهادي لحياة بطله وحظه العاثر، اذ نرى رحيم وهو يرتقي سلماً داخل سقالات عالية لجبل يضم مقبرة أثرية، وقد غاب وسط غابة من الأعمدة الحديدية المتشابكة للسقالات، بينما انقطع نفسه من صعود السلالم الضيقة، فنحن على مدار ساعتين وبضع دقائق نتابع بفضول تحولات شخصية رحيم التي تمتزج فيها الطيبة والسذاجة و إلى حد ما الحظ العاثر، اذ عمد فرهادي على ترك فجوات سردية تزيد من رمادية الشخصية، فمثلاً لماذا أعطى رقم هاتف السيدة التي تعمل في السجن والمتعاطفة معه، وهو يعرف أن ذلك مخالفة قانونية، وكيف ساير إدارة السجن باختلاق قصة عثوره على الحقيبة، والمفارقة إنه كان يتحدث عن ذلك بمنتهى الصدق، وربما تعاطفنا مع ابن البطل جعلنا على مدار الزمن الفيلمي منحازين إلى رحيم ومحنته، وبالمقابل بدا بهرام(محسن تنابنده) وابنته نزانين(سارينا فرهادي) مصرين على أن الرجل أفاق وكل ما يفعله سيناريو محبوك لخروجه من السجن، هذه الأحداث التي وإن بدت محدودة لكنها تضمر دلالات اجتماعية واقتصادية لبنية مجتمع يعاني الكثير من التصدع، وأدار الفائز باوسكارين ممثليه بطريقة خلاقة، فأمير جديدي الذي جسد شخصية المنحوس رحيم سلطاني، قدم أداءً متكاملاً حتى إن المشاهد يكاد ألا يصدق ان ما يراه امامه تمثيل، وكذلك معظم الممثلين، خصوصاً سحر جولدست، التي أدت دور حبيبته فرخندة بحيويتها ودفاعها عن حبيبها، وإن اضطرها الأمر إلى الكذب، وظف صاحب "البائع" كما في معظم أفلامه الأسلوب التشويقي الهتشكوكي، وهو لا ينكر ذلك على أي حال، ما جعلنا نتمتع على مدار ساعتين وأزيد، على الرغم من خلو الفيلم من كل ما يجعله مشوقاً على الطريقة الأميركية، وكل هذا لم يكن يحصل لولا جهود مدير التصوير آرش رامازاني والمونتيرة هايدي صافياري، اللذين يعتمد عليهما في معظم أفلامه، فكاميرا رامازاني تابعت الشخصيات وتحولاتها على الرغم من سكونيتها واحتدامها النفسي، تماماً كما في المسرح، بينما كان ايقاع الفيلم سلساً ومحتملاً من خلال القطع الخلاق لهذه المونتيرة البارعة.