من ديوان الحكومة إلى ديوان العشيرة

آراء 2019/03/12
...

د.عبد الواحد مشعل
 
إن ما تواجهه المعايير الاجتماعية الحضرية في مدينة بغداد( قيم، عادات ، تقاليد، سنن،مثل) إلى تحديات مفصلية،أثرت في بنية العلاقات الاجتماعية ، فتغيرت محدداتها الأساسية ،ومضامينها الضبطية، وأحدثت قلقا وانحلالا معياريا في بنائها الاجتماعي، وتراجعت سماتها الحضرية، وتخلخل تنظيمها الطبقي ،وظهر لدى الفرد الحضري ميلا واضحاً  للاحتكام إلى العرف بدلا من القانون في حل مشكلاته المختلفة .وفي هذا الصدد يمكن إثارة بعض التساؤلات منها : هل تعود جذور ذلك إلى سيطرة الريفيين على إدارة البلاد لفترات متعاقبة تحت مسميات ايديولوجية أو عائلية ؟ وهل كان لتزايد زخم الهجرة الريفية إلى بغداد في فترات مختلفة،وضعف قدرة المدينة (الصناعية )على استيعاب الريفيين ودمجهم في نسيجها الحضري، مقدمة مفصلية لحدوث ذلك؟، وهل كان لهجرة كثير من أبناء الطبقة الوسطى والطبقة البرجوازية والارستقراطية تجاه أوروبا وأمريكا وغيرهما مع مطلع ستينيات القرن الماضي، سببا رئيسا لغياب طبقة وسطى ولودة  قادرة  على مقاومة المد الريفي، وترسيخ القيم الحضرية؟ .وهل كان لبروز تقاطعات سياسية ذات منحى مذهبي وديني وعرقي بين القوى السياسية العراقية الحالية، سببا في وجود إشكالية بنيوية للدولة، وبالتالي اثر في ذلك؟. من المعروف أن مدينة بغداد من المدن المميزة بحضريتها، ومن أولى المدن العربية التي عرفت الحداثة، فدخلها التلفاز  في منتصف الخمسينيات ، وكذلك أولى المدن العربية، التي تأسست فيها محطة الإذاعة ،كما كانت عامرة بصالات السينما والمنتديات الثقافية والنوادي الراقية مثل( نادي العلوية ونادي الصيد)   ،كذلك عرفت بمكتباتها العامرة ومدارسها وكلياتها ،وحراكها السياسي والثقافي، وتميزت بنظافة شوارعها وإتباعها أفضل وسائط النقل المنظم بالتوقيتات مغطية كل مناطق المدينة المختلفة، وقد تمثلت تلك الوسائط  بحافلات ذات الطابقين( اللون الأحمر) ويذكر كثير من الباحثين أن هذا النظام، هو نفسه المتبع في لندن، ومنقول عنها. كما تميزت المدينة بنمط حضري ذات بنية علاقات اجتماعية راقية قائمة على الذوق ،سواء في مجال تقليد (الاتيتيك) الذي يظهر واضحا لدى  الطبقة الوسطى والطبقة المرفهة، أما  ما يخص الملبس فهو الأسلوب الذي كان يحرص  سكان المدينة عموما على الخروج به كاملا(البدلة وربطة العنق والحذاء الأنيق بالنسبة للرجل،وكذلك المرأة بملابسها الزاهية الراقية وطلعتها وذوقها المميز) ، كما كانت الجامعات والنوادي الثقافية والفكرية عامرة بالنشاطات الثقافية الداعية للحداثة والى تحقيق قدر  من  المساواة بين الرجل والمرأة ،فضلا عن السعي إلى بلورة مبدأ الحقوق  والواجبات في دولة عصرية ناهضة  ،كما كان القانون هو الذي يحكم في المدينة، ويلجأ إليه السكان، كمرجع يؤمنون بقدرته ونزاهته، أما الأرياف فكان لها قانون (دعاوي العشائر)، ولم تشهد المدينة توغلا ريفيا في إحيائها إلى أن  تدفقت الهجرات الريفية إليها، ولاسيما هجرة سنة 1954 بعد الفيضان الذي اجتاح البلاد، واقتصر وجود الريفيين على أطرائفها، وقد سكنوا الخيام و(الصرائف)،ولم يكن الريفي قادرا على التعامل مع المناطق الحضرية إلا ضمن الحدود التي تفصل القيم الريفية عن الحضرية أي( الحضري حضري والريفي ريفي).
وعلى الرغم من إجراءات الحكومة بعد 1958 لإسكان الريفيين ضمن الحدود البلدية لمدينة بغداد، أملاً في دمجهم بنسيجها الحضري،  إلا أن هذه الخطوة قد فشلت فشلا ذريعاً، نظراً لافتقار مدينة بغداد إلى البنى الصناعية التحويلية(المصانع الكبرى)  القادرة على إدماج المهاجرين في نسيجها الاجتماعي والثقافي ،وهو  على العكس تماما  مما حصل في المدينة الأوربية حينما نجحت في  ذلك، نظرا لامتلاكها  تلك القدرات بعد الثورة الصناعية. كما أن نظم الحكم التي سادت في العراق منذ عام 1958 حتى المرحلة الحالية،  باختلاف   أسلوب حكمها وأيديولوجيتها،ظلت تحت سيطرة البنية العقلية الريفية، مع انحصار واضح للبنية العقلية الحضرية،مما أربك عملية الانتقال إلى المجتمع الحضري التعددي الديمقراطي، وقد أشرت فترة ما بعد 2003 إلى تناقضات سلوكية وثقافية مختلفة، ففي الوقت الذي تعامل فيه الفرد العراقي مع وسائل اتصال حديثة ناقلةً له أشكال عدة من الحداثة،ومع تنامي حلمه بإقامة الدولة المدنية، إلا أن ذلك تراجع  مع تراجع سلطة الدولة ،وتنامي دور العشيرة ،حتى أصبح الحضريون مهمشين ومنعزلين،يرافقه ارتفاع حاد لوتيرة ظاهرة(ترييف المدينة)، وتنامي التمسك بنمط الحكم القائم على المحاصصة الطائفية والعرقية،ما أعطى الفرصة المناسبة، لظهور العشائرية متخفية تحت عباءة الطائفية لتزداد مساحة الريفيين في مدينة بغداد اتساعا، فضعف إيمان السكان الحضريين بدور القانون في حل مشكلاتهم المختلفة،إذ أصبح معيار القوة والتوازنات المجتمعية هو الطاغي في المشهد الثقافي.وقد ترك ذلك آثارا ثقافية خطرة على السلوك الاجتماعي،فتراجعت السمات الثقافية في مدينة بغداد وتخلخلت معاييرها الاجتماعية، وانحصر دور الحضري (الأفندي) أمام الريفي( العشائري) فسادت تنظيمات عشائرية صارمة، وأصبح لها ديوانها القانوني(العرفي) النافذ مقابل ضعف ديوان الحكومة (القانوني) ، حتى انتقل الإنسان الحضري اليوم من ديوان الحكومة إلى ديوان العشيرة  مرغما، وبغض النظر  عن  كون هذا الديوان يمثل ديوان العشيرة الأصلي أو الحقيقي أم انه ديوان مقلد غير حقيقي افتعلته القوة العشائرية النافذة.