ملوك المحافظات

آراء 2019/03/13
...

ساطع راجي
 

أرسى الدستور العراقي دعائم نظام حكم لامركزي من خلال توزيع الصلاحيات بين الحكومة الاتحادية والادارات المحلية للمحافظات (تسمية الحكومات المحلية غير مقنعة)، ومن خلال القوانين اللاحقة (مثل قانون 21 لسنة 2008 وتعديلاته لإدارة المحافظات غير المنتظمة بإقليم) وكذلك القوانين الاخرى التي توزع الايرادات والصلاحيات، وإذا كان نظام اللامركزية هو التقدم الاهم في الفكر السياسي والادارة الحكومية والسبيل الارقى للديمقراطية عالميا فهو في العراق انعطاف تاريخي يؤسس للاعتراف بالتنوع وكذلك بالاهلية السياسية لأبناء كل محافظة لإدارة شؤونهم وتحقيق مصالحهم، وهذا كله على الصعيد النظري لنظام الادارة اللامركزية.
عمليا، سارت الامور في إتجاه مختلف بطريقة مربكة واحيانا تدميرية، إذ كانت الادارات المحلية للمحافظات صورة للفشل بعينه، فرغم الانسجام الاجتماعي لسكان معظم المحافظات العراقية (قوميا ودينيا وطائفيا وسياسيا) إلا إن الادارات المحلية تقضي دوراتها الانتخابية في خصومات ومعارك شخصية وحزبية على مصالح لاعلاقة لها بحقوق المواطنين وبناء مؤسسات المحافظات، وهو ما اشاع الفوضى والعنف في عدة محافظات وكثيرا ما انتقل شرار معارك المحافظات الى الحكومة الاتحادية التي كانت دائما اكثر تماسكا وقوة على مافيها من خلافات مقارنة بالادارات المحلية التي يتجاور اعضاؤها في السكن وبينهم قرابات عشائرية ومصاهرات ووحدة في المذهب والاتجاه السياسي وهو الحال الاوضح في الانبار بخاصة ومحافظات الفرات الاوسط والجنوب.
لم تف الحكومات الاتحادية المتعاقبة ببعض الالتزامات المالية والصلاحيات تجاه ادارات المحافظات وربما فعلت خيرا بذلك فقد تصرفت تلك الادارات بعشوائية وفساد بما حصلت عليه من اموال وصلاحيات ولم تحقق منجزا لافتا وبقيت تعلق فشلها برقبة الحكومة الاتحادية رغم الارتباط الحزبي بين قيادات الادارات المحلية والحكومة الاتحادية وهو الارتباط الذي تحرك في اتجاه واحد أي تحويل ادارات المحافظات الى مكائن انتخابية للاحزاب تستغل المال العام والصلاحيات لجذب الاصوات عبر سياسة ممنهجة لتبديد التخصيصات المالية على شراء الولاءات وهو مايفسر التناقض الحاصل بين النقمة الجماهيرية في المحافظات والتي وصلت الى حد المطالبة بإلغاء مجالس المحافظات من جهة وفوز رؤساء المجالس وعدد من الاعضاء والمحافظين في كل انتخابات برلمانية.إدارة المحافظات للملف الامني او تدخلها فيه كان كارثيا اذ تساهم الروابط العشائرية والمصالح الاقتصادية في اشاعة الفوضى الامنية ولذلك صارت المعارك العشائرية شيئا مألوفا ويتعامل معه الاعلام بسذاجة وطرافة متخليا عن دوره الاستقصائي ومكتفيا بترديد التفسيرات الكاذبة عن الدجاجة او البقرة او المباراة الكروية المتسببة بالمعارك التي تحدث نتيجة خلافات على قضايا غير قانونية ومنها الاستحواذ على اراضي الدولة مثلا او الخلافات على العقود والمقاولات...المشاكل الناجمة عن تنفيذ منهج اللامركزية الادارية والسياسية لايعني التراجع عن هذا المنهج لإن المركزية اليوم تخلف سياسي وممارستها تعني الانكسار امام التخلف الاجتماعي  بينما اللامركزية تفضح التخلف الاجتماعي وتسمح لأبناء المجتمع برؤية مشاكلهم بوضوح وتحقق هذا جزئيا وكانت الاحتجاجات السلمية تعبيرا عن رفض التخلف وهو ما ضايق ملوك المحافظات ودفعهم لاستخدام القوة والترهيب بالملاحقات القانونية ضد المحتجين.
يتصرف قادة المحافظات وكأنهم ملوك مقدسون ولذلك لا يقبل اي واحد فيهم ان تتم اقالته او استبداله وترى المحافظين ورؤساء المجالس في رحلات مكوكية بين مقاعدهم وابواب القضاء الاداري ليقضوا معظم دوراتهم في محاولة الثبات بمواقعهم في انقلابات متبادلة وتغيير في الاصطفاف الحزبي بحسب المصلحة الآنية، وكثيرا ما يلتبس على المراقبين وحتى على ابناء المحافظة اسم المحافظ او رئيس مجلس المحافظة ويؤدي هذا طبعا الى عرقلة العمل والاضرار بالمواطنين.
لقد إستخدمت الزعامات الحزبية ادارات المحافظات كجيوب لمنافساتها ونزاعاتها السياسية ولجلب الاموال ليس بالاستيلاء على التخصيصات فقط بل بالاعمال غير الشرعية وغسيل الاموال وسرقة النفط وتهريب كل شيء وكثيرا ماعقدت صفقات تسوية في المركز عبر استغلال مواقع في المحافظات ومقابل هذا الاستغلال المركزي كانت الادارات المحلية تلقي بكل فشلها على المركز في صفقة تخادم طويلة الامد لكن حان وقت المواجهة لإنهاء الركض في الحلقة 
المفرغة.دور الحكومة الاتحادية في اصلاح اوضاع الادارات المحلية في المحافظات يكون راهنا بأمرين، الاول هو مكاشفة ابناء كل محافظة باوضاع الادارات وثانيا بفتح جميع الملفات المنسية في هذه المحافظات لتفكيك تحالفات الفشل والفساد في المحافظات والتي تريد ان تتحول الى حاجز بين الدولة والمواطنين فلا يتحرك مسؤول اتحادي في المحافظة إلا بموافقتها، هي مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة ويجب ان تبدأ قبل الصيف وقبل الانتخابات بالتأكيد ودون السماح بمزيد من التمديد للمجالس 
الحالية.