عدنان حسين أحمد
لم يخطط المخرج اللبناني المقيم في أميركا كريم قاسم لإنجاز فيلم عن مرفأ بيروت الذي شهد ثالث أكبر انفجار في العالم وقع بتاريخ 4 اغسطس/ آب 2020 وتسبّب في مقتل المئات وإصابة وتشريد الآلاف من اللبنانيين الذين سقطوا في دائرة الحيرة والانكسار والذهول، لقد صادف وجود المخرج في بيروت قبل يوم واحد من وقوع الكارثة، وقد شهد الانفجار مثل غيره من اللبنانيين، فحاول أن يستنطقهم، ويغوص في أعماقهم ليعرف طبيعة الكارثة وحجمها، والمسببين لها لكنه لم يلق جواباً من الكثيرين بينما استجاب له قلة من الناس المذهولين الذين استجمعوا قواهم الذهنية المشتتة وصاغوا بعض الأجوبة التي لا تحتاج إلى كثير من العناء والتفكير المركز.
يخلو فيلم "أخطبوط" من القصة السينمائية، ولا ينطوي إلا على حوار مُقتضَب يشير إلى حجم الصدمة التي خلعت قلوب اللبنانيين وزجّتهم في دوامة الأسئلة السياسية التي يمكن أن تقود البلد إلى هاوية الضياع، وعتمة المجهول، اكتفى كريم قاسم بتصوير شخصياته الصامتة التي يسرد فيها كل واحد منهم حكايته الخاصة، ومعاناته في تلقي الصدمة التي أخرست الجميع، فلا غرابة في أن يقدّم لنا المخرج لقطات متعددة لأناس طاعنين في السن معزولين، ومتوحدين، وغارقين في صمت مُطبق يشبه تماماً صمت البنايات المُدمَّرة، والصوامع المتهدمة، والنوافذ الزجاجية المُحطَّمة، والستائر الممزقة التي تتلاعب بها الرياح، وعلى الرغم من هول المحنة، وعظم المصاب فإن السيارات تسير في الشوارع، والأطفال يلعبون كرة القدم، والراهبات يجتمعن في الكنائس، وباعة الخضراوات والفواكه يتنقلون بسياراتهم في الأحياء والأزقة البيروتية ويعلنون بمكبرات الصوت عن بضاعتهم من الطماطم، والخيار، والباذنجان، والبصل، والعنب، والدرّاق، وكل ما يسدّ الرمق، وثمة عمال ونجارون، وسمكريون، وكهربائيون يعملون كخلايا النحل بدأب ونشاط واضحين.
الصور تُترى لتكشف طبيعة الحياة اليومية التي لن تتوقف أبداً حتى في أوقات الشدائد والأهوال، فثمة حلاق يحلق لزبون، وشخص يعزف على آلة بيانو، ورجل منهمك في تصليح الأحذية، وصورة على الحائط لشخص نُفِذ فيه حُكم الإعدام، وصوت المذيعة ينساب من المذياع مؤكدة فيه "أنّ الرئيس عون يتفهّم غضب المتضررين من انفجار الميناء وأولئك الذين يطالبون باستقالته، ويعدهم بأن التحقيق سيكون شفافاً لمحاسبة المسؤولين عن الحادث، كما يعدهم بالعمل على تعويض المتضررين، وإعادة إعمار المرفأ والممتلكات العامة والخاصة"، وتمضي المذيعة في قراءة الخبر الطويل الذي نستشف منه أن الرئيس عون يدافع عن حزب الله ويعتبره خاضعاً للقوانين اللبنانية، ويسيطر الجيش على الموقف، وتعلن الحكومة حالة الطوارئ، ويبدأ المسح لمرفأ بيروت بعد الانفجار المروّع، فنعرف أن هناك بواخر قد تدمرت، وصوامع القمح قد تقوضت ولم يبقَ منها شاخصاً سوى الهيكل، وهناك عدد من الموتى والمصابين لا يزالون في سياراتهم، كما تمّ انتشال ست جثث من المرفأ، وثلاث من البحر، وهناك مَن يبحث عن أشلاء صغيرة تناثرت في البرّ والبحر، تلاحق عدسة كريم قاسم، وهو المخرج وكاتب النص، عمّال الصيانة والترميم في مستشفى عصف الانفجار بأبوابه ونوافذه، وسقفه الثانوي، وثمة لحامون يلحمون الأبواب الحديدية، وأناس ينظفون سياراتهم من الغُبار والأتربة، ومنازل مكتوب على واجهاتها "خطر، ممنوع الدخول"، وهناك مَن يغوص في البحر، ويصطاد السمك، وأطفال يلهون في شوارع الأزقة الشعبية.
لابد أن نعترف بأن المخرج كريم قاسم يميل إلى الفلسفة التي لم يدرسها في معهد أو جامعة، لكنه قرأها وتمعّن فيها على الصعيد الشخصي، وأحبّ أن يدمغ أفلامه ببعض سماتها الغامضة فهو يقول:"إنَّ الفيلم لا يقول أي شيء، إنه مجرد طريقة مختلفة للتعبير، لغة أخرى"، والحقيقة أنّ مضمون هذا الفيلم "الصامت" قد قال أشياء كثيرة واضحة لا ينقصها الشرح أو التأويل على الرغم من اعتماده على لغة تعبيرية أخرى لا تخلو من الرمزية والمجاز، ولعل عنوان الفيلم، بوصفه "عتبة نصيّة" هو أنموذج لهذا الترميز الفلسفي الذي فتح مضمون الفيلم على معانٍ متعددة، فحينما رسم أحد النجارين أخطبوطاً على الباب كان يشير فيه من طرفٍ غير خفي إلى رأس الأخطبوط الذي يقود دفّة السفينة اللبنانية إلى الفناء أو المجهول، وأما أذرعه أو مجساته المتعددة فهي صورة مرعبة للأطراف التي تحفّز الرأس وتدفعه لايقاظ الفتنة النائمة وارتكاب الجرائم بحق البلاد والعباد، يمزج المخرج في هذا الفيلم بين التقنيتين الوثائقية والروائية، لكن التوثيق نفسه لا يخلو من الخيال، فالعين الثالثة كانت تصور على وفق مخيلتها المتقدة التي تميل لأشياء محددة، وتنفر من أخرى اعتماداً على خزينها البصري وذائقتها الشخصية المسكونة بهواجس الفلسفة والتنظيرات الميتافيزيقية، ونال المخرج كريم قاسم الجائزة الأولى في مسابقة "التخيّل" في الدورة 34 لمهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية"" IDFA لعام 2021.
ولا بد من الإشارة إلى أنّ المخرج كريم قاسم لم يعتمد على قصة محبوكة في فيلم "الرياح وحدها"، فالبطل العائد من نيويورك إلى بيروت، الذي جسّده المُخرج بنفسه، يبحث عن أماكن وثيمات لتصوير هذا الفيلم، وهي فكرة محاذية تماماً لفكرة "أخطبوط" التي لا تنتظم في نسق قصصي مُحكم، وبقي أن نقول إن المخرج كريم قاسم قد أنجز ثمانية أفلام من بينها "لؤلؤة حمراء"، "حان وقت الذهاب"، "الصحوة"، "أكياس حزينة"، "ماجدة" و "السيد وول".