موت وغجر وغارسيا لوركا

الصفحة الاخيرة 2022/02/13
...

د.جواد الاسدي
حين اقرأ الشاعر الاسباني غارسيا لوركا واتوغل في دماء قصيدته يجرفني شعور غاية في الغموض والدهشة، وتيار عاصف من اللذة والخوف او هيجان، يخلف وراءه عرباتٍ مكسورةً وخيولاً مهانةً وحناجرَ مهتوكة، هل غارسيا لوركا قمر متعتي او قصيدة غربتي في بلدي او ربما نشيجي المذبوح على الارصفة؟ وقتها التقطت رواية الهيجان من على رفوف مكتبة ميسلون في دمشق. الرواية التي رصدت موت لوركا واعدامه بمسدسات الأمن الاسباني ابان حكومة فرانكو، وضعت الرواية في حقيبتي مع احساس خفي بالريبة والخوف مع لهفة بقراءتها.
في المساء ابتدأت في تهجي الحروف الاولى، وشعور غامض انتابني كما لو إن سكينا تسلل الى خاصرتي، خامرتني رغبة بقراءة الرواية على وقع موسيقى بندرسكي، وقتها التهمت الكلمات والأحداث السريعة تتكدس وتتشظى مع اللحظات، التي تمَّ فيها اعتقال لوركا، للحظات وضعت الرواية جانبا ودون قصد مسبق، انتابتني رغبة عارمة بتحويل الرواية الى عرض مسرحي، وفورا صرت أفتش عن الممثل الذي يمكن ان يجسد دور لوركا لا أعرف لماذا حضر امامي وجه اخي عبدالله الأسدي، مع انه كان سائق سيارة ولا علاقة له بالتمثيل ابداً.
 ربما أغواني شكله الغجري وشعره الطويل وقدرته على الطيران وهو يقود الدراجة الهوائية، أقصيت هذا الهاجس وتمثلت وجه عدد من الممثلين السوريين الخلاقين.
واصلت القراءة وصولا الى الفصل الاخير فيها عندما تم اعتقال لوركا فعلا، ثم قادوه الى سيارة واجلسوه في المقعد الخلفي يحيطه المخبرون بمسدساتهم، وقتها قال أحد المخبرين للوركا ماذا تحب في هذه اللحظة اطلب ونحن سننفذه لك؟ اجابهم لوركا: أريد أن تمرروني بشوارع غرناطة فعليا، استجاب له المخبرون حتى وصلوا الى ذلك الفلا الفارغ الخالي من السكان.
في تلك اللحظة تماما هاجمني وجه أخي مرة أخرى وقلت في نفسي ماذا لو لعب أخي هذا الدور يا ترى؟ كيف سانفذ اعدامه على الخشبة هنا؟ انتابني احساس بالرعب اذ اني لم أرَ أخي منذ عشرين عاما. وبخت نفسي وازحت ذلك الشبح، عدت الى اللحظات الاخيرة في الرواية عندما طلبوا من لوركا ان ينزل من السيارة وأن يمشي في القفار، نفذ لوركا ما طلبوا منه لكنه خرج عن توصياتهم وبدأ بالركض مثل طفل شديد العذوبة، وفي اوج ركضه اطلقوا عليه الرصاص.
 صمت طويلا ومت، خفت، حاولت الافلات من آثار رواية الهيجان في تلك الليلة، لكن بلا جدوى وقتها كان الفجر ثقيلا عاريا وموحشا، جربت الاتصال ببغداد من اجل سماع صوت أخي والحديث مع أمي، لكن من دون جدوى بسبب انقطاع جميع انواع الاتصالات بين العراق وسوريا، لكن بعد ثلاثة ايام أتاني تلفون من أحد الأصدقاء في بغداد، طالبا مني أن أكون شجاعا وقويا، ثم اخبرني بأن الحكومة العراقية آنذاك قد قررت اعدام اخي عبدالله، والمفزع في الموضوع بأن الاعدام قد تمَّ في اليوم نفسه، الذي كنت اقرأ فيه رواية الهيجان!. أي نهار شديد الكآبة يجعل حتى الحجارة تبكي لرؤية غارسيا لوركا يموت.
سأعطيكم قلبي فاعطوني غصنا من الأزهار، أريد أن أتزين في ساعاتي الاخيرة، أريد أن أشعر بمداعبة خاتمتي القاسية، أحب الحرية فوق كل شيء ولكني أنا الحرية نفسها…. غارسيا لوركا.