حسن العاني
من بين عدة ظواهر مرضية، يحتل (الوهم) المرتبة الأولى، إذ خضعت لإغرائه نسبة كبيرة من المثقفين، وانعكس تأثيره في سلوكهم الإنساني بصورة عامة، وعلى أساليبهم الكتابية بصورة خاصة، وقد تمثل ذلك بميلهم إلى الصياغة المعقدة التي ترهق المتلقي إلى الحد الذي يعزف عن مواصلة القراءة مكرهاً أو مضطراً، وإلى اقحام مصطلحات من شتى العلوم، ومثل هذه المصطلحات غالباً ما يُزجُّ بها افتعالاً، وكل هذا يجري بسبب وهم أو قناعة ساذجة مفادها أن (المثقف الكبير هو من يكتب بطريقة صعبة الفهم، حافلة بالمصطلحات)، وقد فاته أن (المثقف) كلما أوغل في هذا التعقيد (الأسلوبي والمصطلحي) يصبح أكثر ابتعاداً عن التأثير أو لفت الانتباه، ولا بد أن (طه حسين) كان من أهم مثقفي عصره وجيله وضوحاً وسلاسة وبعداً عن التعقيد، ومع ذلك تم الإجماع على تتويجه عميداً للأدب العربي، مثلما تم الإجماع على وصف أسلوبه بالسهل
الممتنع ..
ولعل هذا الوهم غالباً ما يسيطر على بدايات النتاج الإبداعي للمثقفين، لأنّ مثل تلك البدايات عادة ما تكون غنية بالأوهام وعنتريات المراهقة وضعف التجربة، زيادة على خضوعها احياناً إلى عمليات تأثر أو تقليد مثقفين مهووسين بتضمين كتاباتهم اشارات إلى اسطورة يونانية مثلاً أو صينية أو عربية أو هندية، وعلى المتلقي أن يكون ملماً بأساطير الشعوب كلها، أو تضمينها تلميحات غريبة على غرار (وقريب من هذا المعنى ما ذهب اليه سارتر) أو (ذلك ما أوضحه تفصيلاً ماركس في رأسماله) أو (وبالإمكان العودة إلى سقراط والجاحظ وابن خلدون لفهم ما ذهبنا إليه) أو (تكرر هذا المعنى في مذكرات نيرودا) أو (وقد خلد المتنبي هذه الرؤية في ميميته المشهورة) وأنت لا تدري أية ميمية منها، وميميات المتنبي كثيرة، ثم هل يجب أن نكون قد أطلعنا بالتفصيل على فلاسفة العالم ومفكريه وأدبائه، وعلى حكاياته وأساطيره، وعلى ميمية المتنبي ويائية ابن الرومي
وبائية أبي تمام وسينية الخنساء ونونية الجواهري ولامية العرب!.
وبخلاف ذلك فإن عبارات مثل (فائض القيمة، الزمكانية، الديالكتيك، الاتمتة، التناص، الارتباط الشرطي، لوكيميا الدم، الترباس وبيت الترباس، لعبة التوكي، اللعبة السياسية.. الخ) لا تحصى ولا تعد، هكذا يبدو المشهد مضحكاً ومتمثلاً بالسؤال التالي (هل أنت مثقف من الطراز الأول؟!) إذن نحن نحترمك أكثر فأكثر وكلما أصبحت غريب اللغة والأسلوب والتراكيب، عصي الفهم وبينك وبين القراء بحر يقتضي عبوره من غير سفينة ولا زورق ولا مشحوف زاد تعلقنا بك، أعنى زاد ابتعادنا عنك!.