بعد فيوضات الحب التي تهادت بأمواج من الرومانسية التي كانت تحملها الأغنية العراقية في عقد السبعينيات من القرن الماضي، بمد عاطفي اخذ ينسج خيوط الحب ويمزجها بالحب للوطن والأرض ودجلة والفرات والسنابل، بغزل شفاف وصور شعرية ساحرة، حتى أن الشاعر زامل سعيد فتاح ضمن قصيدته «حاسبينك» هذا المعنى «الكاع حلوه.. الناس حلوه.. والوطن باسم سعيد.. عيونكم تبرالي نجمة دور بيه شماتريد.. «، وهذا تضمين مشفر لشعار الحزب الشيوعي العراقي «وطن حر وشعب سعيد».
وفي فترة الثمانينيات التي اعقبتها، اصطدمت أمواج الرومانسية بصخرة الحرب الصلدة «الحرب العراقية الايرانية»، إذ اخذت الأغاني تسير بمنعطف آخر، وتحول عطر البنفسج والياسمين إلى رائحة البارود «يمه البارود من اشتمه ريحة هيل!»، وكرست السلطة البعثية كل إعلامها المرئي والمسموع والمقروء نحو تعبئة الحرب، او بالأحرى كان النظام آنذاك يقاتل بالأغنية، وبالفعل رفع شعار «الأغنية سلاح بالمعركة».
وتحولت الأغنية من الغزل الشفاف المنفتح على آفاق ملونة بالحب للحبيبة والوطن والسنابل والنهر والقمر.. نحو القائد والتغزل بصفاته الاستثنائية من الشهامة والمروءة والكرم والشجاعة والحكمة والاباء، وبات الشعراء يشبهون «الرئيس» بالصقر والليث والسيف وبعض من صفات الأنبياء والائمة وقادة العرب.. على شاكلة «هلا يا صكر البيدة»، «يا ليث بالشدائد لا يبالي»، «سيدي شكد أنت رائع» وغيرها، وتحول الرئيس إلى القائد الرمز، واصبح البديل عن عاطفة الحب!.
استغرقت أغنية الحرب وقائدها الهمام عقد الثمانينيات، حتى تراجعت الأغنية العاطفية بشكل كبير جداً وانسحبت من المشهد الغنائي وتركت فراغاً واسعاً، وكان مطربو الثمانينيات يعانون من مشكلة حقيقية، عندما يعملون أغنية عاطفية، وتصبح جاهزة للبث، ويحصل هجوم أو تعرض على جبهات القتال، فإن هذه الأغنية توضع على الرف وتهمل، وتحل محلها أغاني المعركة وتهدر بأصوات جموع المغنين من الصباح إلى آخر وقت البث.
الزهد بعاطفة الحب في فترة الثمانينيات، لتحل بدلا عنها صور من المعركة، كانت بداية لتحجر العاطفة الانسانية وبروفة لتمجيد القادة والزعماء والنفاق السياسي، وما اعقبتها من حروب وأحداث مأساوية، اخذت تغذي نزعة التوحش بالمجتمع، حتى وصلت إلى مديات بعيدة عن الإطار الانساني وغريبة عن قيم وأخلاق المجتمع العراقي.