الطبقة الوسطى في مجتمعٍ متحول

آراء 2022/02/19
...

 د. عبد الواحد مشعل 
 
 لا شكَّ أن تطور مجتمع ما، يقوم على أساس ازدهار المعرفة، وإبداعات تطبيقاتها الفنيَّة والتقنيَّة، والمجتمع العراقي من المجتمعات الضاربة جذوره في عمق التاريخ، وله إرث حضري واسع ومنتج للحضارات، فكانت حضاراته المعروفة تعمّر الأرض، وترتقي بالمعرفة الإنسانية إلى العلا، ولا شكَّ أن عماد هذا التطور والارتقاء يرجع إلى فعالية الطبقة الوسطى، وهي تمثل نخبةً وهّاجة في المجتمع يبدع فيها، المفكرون وأصحاب الإبداعات الجمالية والفنية والانجازات الاقتصادية والتقنية كل على حسب المرحلة الحضارية التي يعيشها ذلك المجتمع، والطبقة الوسطى العراقية في المرحلة الحالية تشهد تراجعا في بنيتها الفكرية وطموحاتها الإبداعية، الذي كان يتصاعد خلال عصر النهضة العربية، والتي كان العراق فيها من السبّاقين في عملية التحديث في زمن الملك فيصل الأول، خلال النصف الأول من القرن العشرين ليدخل في عقده الثاني، ليقع تحت توجيه مركزي جمهوري، متأثرا بالسياق الثوري الذي كان سائدا في العالم آنذاك، فانزوت الطبقة الوسطى، لا سيما البرجوازية الصغيرة، ورواد الفكر بعدما تمادت الأيديولوجية الثورية ما حدا بكثير من أصحاب الطبقة الوسطى إلى مغادرة العراق بأموالها تجاه أوروبا، لذا حصلت تحولات ثقافية كبيرة في بنيتها التنظيمية وغابت نواديها الفكرية والثقافية بعد مصادرة جرينها الفكرية والاقتصادية، ولم تبقَ لها إلا مساحة صغيرة من تلك الحرية في (العصر الثوري) الذي هو الآخر انشغل بصراعاته الداخلية، والمجتمع اليوم يدفع ثمن تلك التغيرات في بنيتها التنظيمية وقيمها الحضارية، فطغت الثقافة الريفية والشعبية على المدين وأفرزت المرحلة بعد عام1958 شخصيات، وقوى سياسية لم تتمكن بشكل حاسم من تحقيق طموحات المجتمع من إشباع حاجاته الأساسية على الرغم من امتلاك البلاد الثروات الهائلة، إلا أن عدم عقلنة السياسة قاد المجتمع إلى كوارث، كما أنه لم تعد لدينا طبقة وسطى ولودة، ترسي قواعد نهضة حقيقية، فغاب عن الساحة المفكر والمبدع والمؤهل إداريا الذي يدفع عجلة المجتمع إلى الأمام، ولعل هذه من أعقد إشكاليات بناء طبقة وسطى في مجتمع متحول.