المؤسسات الأكاديميَّة بين السياسة والعشيرة

آراء 2022/02/19
...

  د. سهام السامرائي
 في عالم يتطلع أن تتحقق فيه المساواة والعدالة والألفة والمحبة بين البشر بعيدًا عن أي حاجز ديني أو عرقي أو طبقي أو ثقافي، عالم نتخطى فيه عقبات الحواجز الجغرافيَّة، عالم نسعى فيه إلى نشر القيم الإنسانية وتعزيز الصلات الاجتماعية وتقبل الآخر بما يحمل من أفكار مختلفة وصنع شيء يشبه ثقافة عالمية واحدة، على الرغم من اختلاف وتنوع الهويات الفردية والثقافية والاجتماعية
 
لا فرق بين لون أو جنس أو عرق، وجعل المعيار الوحيد للحكم على الشخص هو تقوى الله عزَّ وجل، عالم مُعولَم يسبح فيه الناس والسلع والخدمات والأخبار والأفكار في فضاء يبدو واسعًا إلى حد كبير، سواء وجدوا أنفسم في لندن أو طوكيو أو برلين أو واشنطن، عالم من المتوقع أن يتحلى فيه الأفراد المعاصرون بالمرونة والحركة، ويشعرون كأنهم في ديارهم أي: منطقة كوزموبوليتانية ( ينتقلون إليها)، عالم تتشابه فيه المؤسسات والمجتمعات والجماعات، عالم تنتشر وتتداول فيه ثقافات الأمم وقيمها وأفكارها داخل ثقافة واحدة شاملة، وفي عصر العلم والثورات العلمية والتقدم التقني والتكنولوجي، وفي الوقت الذي يتجه فيه العالم إلى دعم استقلال الجامعات علميًا وإداريًا والنأي بها عن البيروقراطية؛ حفاظًا على أداء رسالتها العلمية السامية وتهيئة المناخ العلمي المناسب للعلماء والباحثين والدارسين لمواكبة التقدم العلمي السريع واللحاق بالجامعات العالمية المتطورة، نجد بعض الجامعات العراقية تخترق من قبل الأحزاب السياسية، وتنتقي ما يناسبها من كوادر قيادية وإدارية تدين لها بالطاعة والولاء، بعيدًا عن مواصفات الخبرة والكفاءة والمهارة والأمانة والمسؤولية، وذلك بعدما أصبحت المحاصصة الحزبية سمة أساسية للنظام التعليمي في العراق بعد 2003، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ اشتقت معايير جديدة مبنية على أساس المناطقيّة والقبيلة والعشائرية، وأخذ كل قيادي مسؤول على عاتقه مهمة توزيع المناصب والمهام الإدارية في المؤسسة الموكل إليه إدارتها، لا على أساس الانتماء الحزبي فقط، بل على أساس الانتماء العشائري والمناطقي، وكأن المؤسسة الأكاديمية إقطاعية تابعة للعشيرة، التي ينتمي إليها المسؤول، بدلاً من أن تكون ممثلة للمنتسبين إليها جميعًا بعيدًا عن أي انتماءٍ أو توجه. 
ووصل الأمر ببعض المسؤولين إلى الاستيلاء شبه المطلق على المناصب الإدارية جميعها، وتوزيعها بين أبناء العائلة الواحدة ما بين الأخ والأخت والزوجة والبنت والصهر وابن العم وابن العمة وابن الخال وابن الخالة والقريب إلى سابع ظهر، وكأنهم يؤسسون لعملية انقلابية على الدولة للعودة إلى النظام القبلي الذي بنيت عليه مجتمعات ما قبل الإسلام، إذ كانت القبيلة تمثل الكيان السياسي للمجتمعات العربية بركنيها السياسي والاجتماعي، وفقد البعض صوابه وألبس عشيرته ثوب الإمارة وأخذ يطلق على عشيرته( إمارة آل....!!!) ربما تأثرًا بإمارة المناذرة، الذين كانوا حلفاء الرومان في البدء قبل الإسلام . 
 ما يحصل في بعض الجامعات يحتاج إلى وقفة حقيقة جادة لدراسة هذه الظاهرة الشاذة غير مقبولة، البعيدة كل البعد عن العقل والمنطق والعرف والدين.
إنَّ تعامل بعض القيادات العراقية مع منتسبيهم على أساس عشائري وطائفيٍ ومناطقي ينذر ببوادر خطيرة تهدد السلم الأمني للمجتمع، وتسهم في ضرب الهوية العراقية الجامعة في وقت لما يزل فيه العراق يدافع عن سيادته وأمنه ضد العصابات الإرهابية الداعية إلى شق الصف العراقي وبث سمومها الطائفية والعرقية والمذهبية بين أبناء الوطن الواحد، إذن نحن الآن بأمس الحاجة إلى التآزر والتكاتف، والاتحاد والعمل بقوة لبناء عراقٍ واحدٍ موحد تسوده قيم العدالة والسلام يسع الجميع وينعم فيه أبناؤه بخيراته جميعًا. 
إنَّ تكالب البعض على المناصب وأخذها من دون وجه حقٍ عن طريق المحاصصة العشائرية، يعدُّ وجهًا من وجوه الفساد ولا يقوم بها إلا الفاسد، عن النبي عليه أفضل السلام وأزكى التسليم أنه قال «مَا مِنْ رَجُلٍ يلي أَمْرَ عَشَرةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إلاَّ أَتَى الله عز وجل مَغْلُولاً يَوْمَ القِيَامَةِ يَدُهُ إلى عُنُقهِ فَكَّهُ بِرُّهُ أو أوْبَقهُ إثْمُهُ،أَوَّلُها مَلاَمَةٌ وَأوسَطها نَدَامَةٌ وَآخِرُها خزيٌ يَوْمَ القِيَامَةِ»، وقال صلى الله عليه وسلم «إنَّا والله لا نُوَلِّي هذا العمل أحدًا سأله، أو أحدًا حرص عليه». 
والمؤكد أن طلاب المناصب غايتهم خدمة مصالحهم ومصالح أقاربهم ومقرّبيهم، وهم من محبي السلطة والهيمنة والثروة والجاه والنفوذ والتحكم في النَّاس، وهذا الأمر مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بضعف الإيمان والعقل والشخصية، وهم ممن باعوا الضمير والقيم الأخلاقية والمعايير الإنسانية، وتجدهم على استعداد للقيام بأي شيء للوصول إلى المنصب والتمسك به عن طريق استعمال المال الحرام والابتزاز والتزوير والرشوة، وربما القتل... ونسوا أو تناسوا تهرب العلماء قديمًا منها، بل هرب بعضهم من بلده كي لا يتولاها خوفا من تبعاتها وعواقبها، وقد قال بعض العلماء المسلمين «لا خير في من يرى نفسه أهلاً لشيء لا يراه الناس أهلا
له». 
وتعد المناصب بالنسبة إلى هؤلاء المرضى محاولة للدفاع بصورة إستباقية عن إحساسهم بالعجز وعدم الكفاءة والخوف من الآخرين؛ لإخفاء ضعفهم إذ أن أغلبهم قبل توليهم السلطة كانوا بلا حول ولا قوة لذا هم يتشبثون بها ؛ لشعورهم بعدم الأمان و لضمان عدم عودتهم للموقف الأضعف كما يرى ذلك الأستاذ( ما نفريد كيتس دي فريز) أستاذ المهارات القيادية بكلية إنسياد . 
 ختامًا إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه من تدخل قبلي في توزيع المناصب والمكاسب على أبناء القبائل والعشائر وحسب ثقل القبيلة العددي بعيدًا عن أي معيار مهني فلن تقوم لنا قائمة واقرأ على المؤسسات الأكاديمية 
السلام.