المركزيَّة والفيدراليَّة في العقل السياسي العراقي

آراء 2022/02/21
...

 ابراهيم العبادي
قليلون من العرب وكثيرون من الكرد ساءهم الحكم الذي أصدرته المحكمة الاتحادية، ببطلان قانون النفط والغاز الذي أصدره إقليم كردستان العراق، أغلبية عربية ساحقة وأقلية كردية تحمست للقرار، واعتبرته خطوة جبارة باتجاه تصحيح العلاقة بين المركز والإقليم، بعدما شابها (تمرد) كثير على سياسات المركز، جعل الإقليم دولة ببطن الدولة العراقية، تستفيد منها ساعة الحاجة، وتشاكسها في ساعات الرفاه.
انطلق جدال متجدد فور صدور قرار المحكمة، أعاد الحديث عن موضوع العلاقة بين الإقليم والحكومة المركزية، ومساحة الصلاحيات الدستورية التي تتمتع بها الأقاليم، وإشكاليات التعارض وسوء التفسير والفهم للبنود العامة للدستور، وهو الأمر الذي اكتنف علاقات أربيل وبغداد منذالعام الأول لسريان دستور 2005، بما أثقل الحياة السياسية العراقية وصيّرها مسرحا للضغائن والتقلبات، والحسابات المتعارضة والطموحات غير المعقولة.
لأعود بكم قليلا إلى التاريخ، وأذكرككم بأن شعار الثورة الكردية منذ عام 1961 هو الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان، في عام 1992 وبعد انتفاضة شعبان 1991، واثناء انعقاد مؤتمر صلاح الدين للمعارضة العراقية، انتزع الكرد إقرارا من أطياف المعارضة بأن العراق الجديد الذي سيبنى على أنقاض نظام البعث، سيكون ديمقراطيا فيدراليا، بُعيد سقوط النظام، أفاق العراقيون على تجربة جديدة مقننة بمواد دستورية عامة، شابها الغموض أو (التغميض)، ذلك بأن الإقليم اقتنص فرصة تاريخية، ليعبد الطريق نحو فيدرالية تتحول إلى كونفدرالية خلال بضع سنين، ثم تنتظر سنين اخرى لينضج حلم الدولة.
لم يكن هذا الأمر سرا ولا رجما بالغيب ولا قراءة للنوايا، الإقليم باق ضمن العراق الفيدرالي لضرورات سياسية وأمنية واقتصادية، وهي كلها متعلقة بغطاء دولي وضمانات خارجية، متى ما شعرالكرد بأن اللحظة واتتهم لتحقيق الحلم فإنهم لن يتأخروا في الاعلان عنها، استفتاء عام 2017 كان تمرينا اختباريا.
حجرالزاوية في تحقيق الحلم القومي هو استثمار النفط والغاز بعقود يفصلها الإقليم تفصيلا، عبر بيوت خبرة قانونية دولية، ويسلك فيها مسلكا يرغم المركز على التسليم لتفسيراته القانونية والسياسية. أين المشكلة في ذلك؟ المشكلة في الاقتصاد السياسي، فغداة توقيع الإقليم مع شركة اكسون موبيل النفطية الأميركية، عبّر الزعيم البارزاني بأن وجودالشركة يعادل وجود فيلق عسكري للحماية، عند ذاك اكتشف المركز أن مياها كثيرة جرت تحت أقدام العلاقة بين أربيل وبغداد وأنَّ الذين صاغوا عبارات الدستور من (الآباء المؤسسين) كتبوا بنوايا تحالفات المعارضين لا بحسابات بناة الدول الحذرين من الافخاخ البلاغية واللغوية، وأن الأمر الواقع صار يتراكم لصالح احتفاظ الإقليم بالعائدات المالية وببيع النفط والغاز لمن يشاء ولمن يشتري، أما اعتراضات وزراء النفط الاتحاديين أو تذمر وزارة المالية، فإنه لن يكون له مغزى، طالما أن الإقليم يحصل على نسبته من الموازنة مطروحا منها ما يدخل خزانة أربيل من أقيام النفط المصدر بعد حسم حصة المستثمرين الأجانب والمحليين!.
قرار المحكمة الاتحادية المتأخر جاء ليجرد الإقليم من أكبر دعامات الفيدرالية التي استحصلها طوال 40 عاما من النضال، ولذلك رفض الإقليم حكم المحكمة، وأشعر بغداد بالحرج الشديد، ماذا ستفعل الحكومة المركزية؟ هل ستتعامل وفق السياقات الدستورية والقانونية وبأي أدوات؟
أم أنها ستلجأ إلى الوسطاء الدوليين؟
ام تستعين بأولي الطول والقوة اللذين يستطيعون التأثير في ساكني مصيف صلاح الدين؟.
العرب المنزعجون من قرار المحكمة الاتحادية رؤوه متأثرا بالواقع السياسي ويقضي على مكاسب اللامركزية، التي تحققت بصعوبة ويعيد هيمنة بغداد على الأموال والادارات والخطط، وهي هيمنة مقيتة، فوتت فرصا كبيرة وأهدرت أموالا عزيزة، وقوضت فلسفة الادارة الفيدرالية للحكم والدولة،المهللون للقرار قالوا إنه جاء ليمنع تجاوزات كبيرة على صلاحيات المركز الدستورية، ويصحح العلاقة بما يمنع الفهم الأحادي للصلاحيات، فدستور البلاد يوزع الصلاحيات بين حصرية للمركز وخاصة للأقاليم ومشتركة بين الأقاليم والمركز، وفي كل السنين المنصرمة لم يشهد العراق تقيدا في الادارة واستخدام الصلاحيات، لا من الإقليم الطموح جدا، ولا من المركز الضعيف الذي يريد تقوية ضعفه باحتكار المال والصلاحيات، ولو على حساب ضعف الانجاز وهيمنة مافيات المال، والتربح والزبائنية المفضوحة والفساد
 المبطن. المحكمة الاتحادية وضعت العراق على مفترق طريق، قد يقوده إلى الهاوية اذا ما أصر الإقليم على فهمه وتفسيره وعقوده الخاصة، وعدم تسليمه للاموال إلى الخزانة العامة، في قبال ضعف حيلة المركز وتشتت قرار السلطة فيه، وتيه السياسات بين الحسابات الشخصية وتوافقات حزبية تأتي في الدقائق 
الأخيرة.
لقد كشفت سنوات ما بعد التغيير، أن تفكيك المركزية الشديدة أمرٌ في غاية الصعوبة لا بسبب التقنين ومحفظة القوانين والتشريعات الكثيرة، بل بسبب عقلية سياسية ترى أن احتفاظ المركز بالمال والصلاحيات، هو ما يحفظ تماسك العراق ويمنع تفتته، مثلما كشفت التجربة ايضا أن كارهي المركزية لا يحسنون الادارة والتصرف تحت سقف الوحدة الوطنية والسيادة العليا للدولة، أنها معركة مفاهيم وقوانين وصلاحيات ونوايا وطموحات لن تتوقف حتى يعاد تعريف العراق مجددا، وفق رؤية غالبية السكان لا وفق أحلام النخب المتصارعة. جاءت لحظة تصحيح العلاقة بين بغداد وأربيل في ذات اللحظة، التي ينقسم فيها سياسيو بغداد وسياسيو الإقليم بين تيارات عطّلت تشكيل الحكومة ورسخت أمام العام تجربة فشل الديمقراطية في البلدان ذات التاريخ الاستبدادي 
الطويل.