ما وراء التاريخ لهايدن وايت التاريخ ليس لفهم الماضي بل للتحرر منه

بانوراما 2022/02/22
...

  ليام غريناكر
غالبا ما يوصف الغرض من التاريخ بأنه كشف «الحقيقة» بشأن الماضي. وقد ساعد هايدن وايت، أحد أهم وجوه القرن الماضي في تخصص التاريخ، على تقويض هذه الفكرة. وقد فعل ذلك من خلال مقارنة الكتابة التاريخية بكتابة الأدب، مشيرا إلى أن ثمة العديد من أوجه التشابه بينهما. لذا، يجعل ذلك من العسير على المؤرخ كتابة أي شيء مهم من دون التعتيم على «ما حدث بالفعل». بطبيعة الحال، أدى ذلك إلى أن يصبح هايدن وايت منظّرا مثيرا للانقسام بين المؤرخين. يعتقد هيرمان بول أن وايت برز كمتمرد متحمس ضد النزعة المغالية في العلمية او العلموية  scientism ومدافع عن القيم الإنسانية.
ومع ذلك، بعد نشر; Metahistory كتاب ماوراء التاريخ ، شكك اريك H. Monkkonen في أن حفنة فقط من المؤرخين سوف تتفق فعلياً مع نظرياته.
وبوصفه كاتبا غزير الإنتاج لأكثر من 40 عاما، تهدف هذه المقالة إلى أن تكون بمثابة مقدمة لبعض أفكار وايت الرئيسية، مع الدفاع عن استمرار علاقة مؤلفاته بالمؤرخين الحديثين.
وسيتم ذلك من خلال النظر في ثلاثة مفاهيم رئيسة نجدها في مؤلفاته. 
سأبدأ بالتساؤل في العوامل المختلفة التي يمكن أن تؤثر على المؤرخ أثناء كتابته، والآثار التي يمكن أن تترتب على ذلك بالنسبة لقدرة المؤرخ على التعبير بدقة عن الماضي.
وأخيرا، سأجيب على السؤال الناتج: ما هو بيت القصيد من التأرخة إذا لم يكن الغرض منها الكشف عن حقيقة الماضي؟
 
“ماوراء التاريخ “ والتدوين التاريخي
 الكتاب الأكثر شهرة من بين مؤلفات هايدن وايت هو كتاب “ماوراء التاريخ Metahistory : الخيال التاريخي في أوروبا في القرن التاسع عشر” (1973).
وغالبا ما يذكر هذا الكتاب  نظرا للاستفاضة  النظرية  في مقدمته التي تغطي كيف يستخدم المؤرخ تقنيات معينة لإضفاء معنى على عملهم
قد يكون المؤرخ قادرا على ترتيب مجموعة من الأحداث أو إنشاء قصة منها، ولكن ذلك في حد ذاته لا يشكل التخصص الدراسي المسمى التاريخ.
عندما يستعمل وايت مصطلح “معنى” فإنه يشير ببساطة إلى الأسئلة التي تظهر أثناء كتابة التاريخ من قبيل “ما الذي يضيفه كل ذلك؟” أو “ما هو بيت القصيد من كل ذلك؟”.
يشير مصطلح “ماوراء التاريخ» نفسه إلى فكرة مفادها أن كتابة التاريخ تحت السطح هي كتابة شعرية (او ادبية )- تستند إلى خيارات أخلاقية وجمالية - ويحددها استخدام اللغة.
واحدة من الطرائق التي يشير اليها هايدن وايت لتحقيق ذلك في الكتابة التاريخية هو صنع الحبكة، بعبارة أخرى، نمط  القصة التي تروى.
ويشير إلى أن ثمة ما لا يقل عن أربعة أشكال للقيام بذلك: الرومانسية والمأساة (التراجيديا) والكوميديا والسخرية.
واستعار وايت هذه الاشكال من الناقد الأدبي نورثروب فراي.
من شأن الحبكة الرومانسية في الكتابة التاريخية أن تؤكد انتصار الخير على الشر.
وتميل تلك القصص التاريخية عموما إلى أن تكون إيجابية، مع التشديد على قدرة البشر على التغلب على قيود الدنيا التي يعيشون.
أما السخرية في على العكس من ذلك، فالحكاية التاريخية مع حبكة السخرية يؤكد عدم قدرة البشر على التغلب على واقع العالم. 
فالتاريخ هنا عديم المعنى.
من ناحيتها تشير حبكة الكوميديا إلى أن البشرية يمكن أن تنتصر مؤقتا على طبيعة العالم; حيث تتصالح القوى الفاعلة في التاريخ وتناغم.
والعالم أفضل في نهاية المطاف نتيجة لهذه الصراعات. 
والقصة المأساوية على الغرار نفسه، ولكن بدلا من المصالحة الإيجابية للقوى التاريخية، تُذكّر البشرية بالقيود المتأصلة فيهم كما تذكرهم بقيود العالم.
عند مقاربة مقطع من التدوين التاريخي قد يبدو من العسير في البداية تحديد هذه النماذج الأولية  archetypal لهذه القصص، لأن وايت يشير الى أن سرد التاريخ يمكن حبكه بطرق متعددة في الوقت نفسه، على سبيل المثال يمكن أن تكون هناك حبكة كوميدية ممزوجة بالسخرية.
ويعود هايدن وايت في وقت لاحق إلى هذا الموضوع في مبحثه “الحبكة التاريخية ومشكلة الحقيقة في التمثيل التاريخي”، مشيراً إلى أن من الصعب إضفاء نوع معين من الحبكة السردية على بعض الأحداث التاريخية.
على سبيل المثال، على الرغم من أن المؤرخ يمكن أن يحاول تحويل قصة الرايخ الثالث إلى كوميديا، إلا أن الأحداث نفسها يمكنها دحض ذلك على نحو قاهر.
حدد هايدن وايت أيضا أربع طرق يتخذ فيها التفسير التاريخي شكل حجة (عقلية). وغالبا ما يستخدم مصطلح “الوحدات التاريخية” حين يصف تلك الطرائق. تُحيل هذه العبارة ببساطة إلى أي شيء يمكن للمؤرخ دراسته، مثل الأحداث والشعوب والسيرورات. إن الحجة الشكلانية ترى الوحدات التاريخية مستقلة عن بعضها البعض وتسعى إلى تبديد أي صلات بينها، بينما ترى  الحجة العضوية أن الوحدات التاريخية مهمة من حيث مكانتها في الكل
الأكبر.
وهناك الحجة الميكانيكية التي تبحث عن القوانين التي تحكم مجمل التاريخ. والمثال الأكثر وضوحا على ذلك هو التدوين الماركسي الذي، في صورته الأساس، ينظر في التفاعلات بين الإنتاجية الاقتصادية والعلاقات الطبقية. أمّا المقاربة السياقية فهي مزيج من الحجتين الشكلانية والعضوية وتسعى إلى عزل الوحدات التاريخية قبل ربطها بخلفيتها الأوسع.
يحدد هايدن وايت أيضا أربعة مواقف أيديولوجية يتسنى للمؤرخين اتخاذها: النزعة الفوضوية والمحافظة والليبرالية والراديكالية. ويؤكد أن هذه المصطلحات لا تُحيل إلى أي أحزاب سياسية بعينها، بل إلى وجهات نظر محددة للتاريخ والزمان. ترى وجهة نظر المحافظة أن التاريخ يتقدم إلى الوضع الحالي الذي هو عليه الآن، ويعدّه أفضل شكل من أشكال المجتمع الذي يمكن للبشرية أن تهدف إليه واقعيا. يتخيل الليبرالي مستقبلا مُحسّنا، لكنه يشير إلى أن الوصول إلى ذلك المستقبل سيستغرق بعض
الوقت.
أمّا الراديكاليون فيعتقدون أن الدولة “الطوباوية” وشيكة، في حين يعتقد الفوضويون أن الإنسان قد سقط من عصر طوباوي وأن العودة إلى الأخير يمكن أن تحدث في أي وقت.
من خلال إظهار المكونات المختلفة جميعا التي يمكن أن تدخل في التدوين التاريخي، يذكّرنا هايدن وايت بأن التاريخ هو في نهاية المطاف تمثيل للماضي، ويمكن أن يكون هناك تمثيلات عديدة لحدث واحد.  
وليس ذلك ادعاء فظا بين المؤرخين، ولكن اهتمام وايت المحدد بالطبيعة الأدبية للسرديات التاريخية يذكرنا بأن هذه التمثيلات تتأثر بالقيود المفروضة على اللغة والتقنيات التي يستخدمها الكاتب لجعل الماضي ذا معنى. وعند مقاربة “ما وراء التاريخ»  من المهم أن نتذكر عدم فصل المقدمة عن بقية
الكتاب.
نظريات وايت مستمدة من دراسة التدوين التاريخي الغربي للقرن التاسع عشر، ويجدر أن وضعها ضمن سياقها الموصول بها. على الرغم من أن وايت مرن في الجمع ما بين تلك المكونات المختلفة، إلا أنها ربما لا تزال مقيدة للغاية بفهم البناء الأدبي للتدوين التاريخي برمته.
ومرد ذلك إلى كونها مستمدة من دراسة تراث زمني وفكري محدد.
 
التاريخ والرواية
 إذا كان في الإمكان القول إن التاريخ يحتوي على العديد من العناصر الشبيهة بتلك الماثلة في الأدب، فهل يعني ذلك أن التدوين يكاد أن يكون خياليا(أي سردا روائيا)؟
معظم الاتهامات ضد هايدن وايت غالبا ما ترى أن ذلك هو ما يرتأيه. يقول بيتر بيرك، في مراجعته للكتاب إن “الكتابات التاريخية” هي “والسرد الروائي المتخيل سيان”، من حيث أنه بنية لغوية تمثل (أو تعرض) الواقع”. ولكن وجهة نظر وايت، وخاصة في مؤلفاته اللاحقة، هي أكثر دقة من ذلك.
ويمكن رؤية ذلك في بحوثه من قبيل “النص التاريخي بوصفه صنعة أدبية” و”خيالات تمثيل الوقائع” التي تم جمعها في كتابه “مدارات الخطاب: مقالات في النقد الثقافي (1978). 
في المبحث الأول يقول “إذا كان ثمة عنصر من التاريخ في كل الشعر، فثمة عنصر من الشعر في كل مسرد تاريخي للعالم”.
لا يرتأي هايدن وايت أن ما من فارق بين الخيال والحقيقة الواقعة، بل يرتأي أن التمييز بينهما ليس واضحا كما يبدو لأول وهلة. 
عمل المؤرخ هو مزيج من التخيل الروائي والحقيقة، لأنه يضع الأحداث في “سردية” ما تتطلب استعمال التقنيات الأدبية.
في مبحثه المعنون “المخيال الروائي في تمثيلات الوقائع” يجيب هايدن وايت بنفسه على الانتقادات المحتملة، بالقول إن المؤرخين معنيون بالأحداث التي هي “من حيث المبدأ قابلة للملاحظة أو يمكن إدراكها”، في حين أن الأدب يهتم  بالأحداث “المتخيلة والمفترضة، أو المخترعة”. لذلك يهتم المؤرخ بالأحداث الفعلية التي وقعت. يرى وايت ببساطة أن المؤرخ غير قادر على تمثيل (او استحضار او عرض) تلك الأحداث من دون اللجوء إلى التقنيات التي تضيف عنصرا خياليا.
إذا لم يكن من المفترض أن يكشف التاريخ عن الحقائق الموضوعية بصدد الماضي، أو أنه غير قادر على ذلك، فما الغرض منه؟ لا يرى هايدن وايت أن عنصر الخيال الروائي في التاريخ يشكل عائقا، ويقول إن قبول ذلك لن يحط تلقائيا من شأنه إلى درك الدعاية(البروباغندا). في الواقع، يرى أن الاعتراف بالطبيعة الأدبية للتاريخ سيكون مدعاة تحرر للباحثين، بما انه يتيح للمؤرخ بأن يصير أكثر وعيا بنفسه. ويعين المؤرخين على تجنب الميل إلى أن يغدوا أسرى للافتراضات الأيديولوجية المسبقة التي قد يحملونها في أثناء الكتابة.
في سياسة التفسير التاريخي، يخطو وايت خطوة أبعد ليشير إلى أن التعامل مع التاريخ كما لو كان في مقدوره أن يكشف عن حقائق أصيلة يؤثر على التفكير السياسي ويحد منه.
ومرد ذلك لأنه يحاول فهم الماضي وإعطائه معنى، في حين أن التاريخ في الواقع لا معنى له. إذا أصبح شخص ما مرتبطا أكثر من اللازم بطريقة متسقة لعرض الماضي، فليس من المستبعد أن يكبح تفكيره التجديدي والإبداعي. وينتقد هايدن وايت المقاربتين الماركسية و”الرأسمالية” للتاريخ، مشيرا إلى أن الأول “ليس أكثر بصيرة من نظيره
البرجوازي”.
قد يبدو ذلك مربكا بادئ ذي بدء، إذ ترتبط الماركسية عادة بالسياسة الراديكالية والطموحة. بيد أن كلتا المقاربتين مذنبتان بالقدر نفسه بكونهما مناهضتين للطوباوية. من خلال فرض معنى على الماضي، فإنهما يحدان من قدرة الأفراد على خلق معنى لأنفسهم في الحاضر. لذلك، يقول وايت إن الغرض من التاريخ ليس فهم الماضي، بل التحرر منه.
في المتسع العثور على هذه الموضوعة أيضا في بحثه المعنون “عبء التاريخ”، واحد من أقدم كتابات وايت. ويقول فيه إن من اللازم تغيير الدراسات التاريخية “كي تتيح للمؤرخ المشاركة إيجابياً في تحرير الحاضر من عبء التاريخ”. وصاغ هيرمان بول، في استجابة لهذا الرأي الفكري، مصطلح “تدوين التحرر”، مشيراً إلى أن الدافع الرئيس لهايدن وايت في الكتابة كان موجها بنحو سياسي إلى تلك الوجهة. هذه الفكرة مقنعة، ولكن لا نستبعد أنها فكرة مبالغ فيها. تساعد مقارنات وايت بين الأدب والتاريخ على تسليط الضوء على اهتمامه الخاص بوضع التاريخ المضطرب كتخصص دراسي، وهو مجال يتخطى الحدود بين العلم والفن، والواقعي
والمتخيل..
ربما تكون مؤلفات هايدن وايت مثيرة للجدل على نحو مفهوم، مثلما انه اسهم في تقويض الأفكار التي طال أمدها بشأن الطبيعة العلمية
للتاريخ. 
ومع ذلك، تشكل مؤلفاته تذكيرا مهما بأن أي تمثيل للماضي يتأثر حتما بالطريقة التي يتم بها إنشاؤه. ليس بعض هذه الأفكار مثيرة للجدل بين المؤرخين اليوم، على سبيل المثال أن الباحث يحتاج إلى إدراك التحيزات التي لديه أثناء الكتابة. والحال أن مؤلفات هايدن وايت تمنح باصرة جديدة عن الطريقة التي يتشكل بها التفسير التاريخي بفعل اللغة والاستراتيجيات التي يستخدمها كي يكتسب معنى. من المحال كتابة التاريخ من دون الاعتماد على شكل من أشكال التقنية الأدبية التي تسهم في التشويش على
الحقيقة. بغض النظر عن رأي الشخص بشأن الغرض من التاريخ، يتيح وايت في نهاية المطاف للمؤرخين أن يكونوا أكثر وعيا بأنفسهم من خلال إظهار العديد من المكونات التي سيستخدمونها حتما أثناء الكتابة، ومن المتعذر اطلاقا أن يكون ذلك
ضارا.
 
نقلا عن:
https://theyorkhistorian.com/2017/12/06/hayden-white-an-introduction/
December 6, 2017