عقيل حبيب
فهذه الكيانات لم تكن نتاج لحظتها لتفنى بفنائها، بل نتاج تفاعلات عديدة وظروف متداخلة وممتدة في مخيال الناس وتكوينهم النفسي والديني والاجتماعي، وكثيرا ما مثلت تلك الكيانات سواء كانت دينية أو سياسية أو قومية عزاء لهم من بؤس واقعهم ومرتعا لخيالاتهم واحلامهم ومكبوتهم التاريخي في كتاب ميشيل ترويو المعنون (إسكات الماضي: القوة وإنتاج التاريخ) نكتشف الدور الخطير الذي تلعبه الحكاية في تأطير الناس بتوجه معين هو قوة الحكي. داعش وبالاعتماد على الاف الحكايات التي يمتلئ بها التاريخ الاسلامي وما توفره الميديا لها استطاعت ان تصنع حكايتها الخاصة وتهيمن سرديتها على بعض العقول.
حين تسأل عدد من المنتمين لداعش - خاصة القادمين من خارج العراق وسوريا أي من غير السكان المحليين - عن سبب قدومهم وانتمائهم الى التنظيم ومن الذي دعاهم الى هذه العقيدة، سيجيبك عدد كبير منهم (خاصة الأوربيين) انهم تأثروا بما ينشر من الصور والخطب ومقاطع الفيديو.
بالنتيجة فان هؤلاء الإرهابيين يشكلون جزءا اساسيا من عالم تسوده ثقافة الصورة، واستغل التنظيم خبرتهم في هذا المجال فطلب منهم تصوير المزيد من المقاطع بلغة بلدانهم ليكتمل طرفي الصورة ويتبادل مصدر الصورة بمتلقيها، فنفس الشخص هو متلق ومنتج للصورة. لقد اكسب هذا تنظيم داعش اعدادا كبيرة من المهاجرين، واغرته لعبة الاعلام ونتائجها فصرف عليها اموالا طائلة ليشيد امبراطورية الكتروينة استطاعت أن تؤثر في نفسية الشباب المسلم، وتمدهم بالقوة الداخلية الوهمية أو الخيالية التي تنحي التفكير المنطقي والعلمي جانبا.
حينما يصبح وعي الفرد مختزلا العالم في صورة يصبح الفرد مهيء لتقبل ما تملى عليه تلك الصورة من القيم والمواقف دون ممانعة نفسية أو اعتراض عقلي، يصبح يدور في تفكيره واستجاباته في شبكة تواصلية معرفية مركبة تركيبا لا عقلانيا، ومبنية بناء سحريا خرافيا. بهذا التفكير رأى الاف الافراد ان قضية قيام (دولة الخلافة) قضية ممكنة التحقق بعد كل هذه التطورات الحضارية الهائلة، وكأن مجرد اعلانها من قبل عواد ابراهيم البدري يلقب نفسه بالحسيني القرشي البغدادي في جامع الحدباء كاف للاعتقاد بالوجود التأريخي لتلك الدولة، وبأنه حاكمها الذي اخلف النبي محمد.
هكذا وبذهن شعري سحري فسر هؤلاء (المسلمون) الاحداث بطريقة عاطفية مغلوطة لتعطي نتائج كارثية كشفت عنها اعداد النساء والاطفال والمصابين والعجائز، وهم آخر ما تبقى ليمثل (دولة الخلافة). لقد كانوا ممسوخي الهوية أو تم تذويب هويتهم الشخصية personal Identity داخل الهوية الجمعية group identity للتنظيم. من اول نتائج هذه العملية هو تهيئة الفرد لقبول كل ما يملى عليه ممن هو اعلى منه بحسب اعتقاده اماما كان أو امير أو (خليفة) او أي (ولي أمر.)
لهذا هؤلاء المتطرفون لا يفضلون موتا طبيعيا، ويميلون الى موت دراماتيكي كالذي تظهره مقاطع الفيديو وتدعو اليه الخطب، موت داخل سردية الخلافة، موت داخل حلمهم في (دولة على نهج النبوة).
هذه التعمية والتضليل تنقلهم عبر سبات عقلي من حلم صغير الى الحلم اللانهائي وهو الجنة.عالم النفس الشهير فيليب زيمباردو وتأثرا بتجارب زميله ستانلي ميلغرام في قياس مدى التأثير الكبير للبيئة على الفرد. لذا فميلغرام عرف بـ (تجربة الطاعة)، أما زيمباردو فقد قام في علم 1971 هو وزملاؤه بتجربة لدراسة ما يحدث للفرد عندما يوضع في بيئة او ظرف يتخذ فيه وضع سجين/ ضحية، وحينما يوضع في موضع السجان/ المتسلط. فكشفت مراقبة سلوك كلا الفئتين، السجانون الأمرون والسجناء المأمورون أن المجموعة الأولى بدأت تسلك سلوكا قاسيا ومسيئا بل وتقمص بعض افرادها دور الجلاد متناسيا أنه في تجربة، وراح يظهر عدوانية اتجاه زملائه الذين كانوا يمثلون دور المسجونيين. بالمقابل اظهر الاشخاص الذين كانوا يمثلون في التجربة دور السجناء طاعة وامتثالا لأوامر ممثلي دور السجانين، وبدأوا بالبكاء وعلى إثرها اخرجوا من التجربة. هكذا رأينا وبسرعة لافتة تطور السلوك البشري فئويا من سجان وسجين الى جلاد وضحية، هذه الثنائية الجديدة الأكثر قسوة من الثنائية الأولى، واكثر تصديقا وتفاعلا من قبل الافراد، أي ابعدتهم عن التمثيل نحو اظهار شيء من طبيعتهم الميالة الى الخضوع لأثر البيئة المنقسمة، أو كما سماه زيمباردو (أثر الشيطان) وهو ما سيكون عنوانا لكتاب سيصدره زمباردو بعد سنوات من تلك التجربة.وإذا ما اردنا تطبيق تجربة زيمباردو على هؤلاء الناس الذين عاشوا في ظلال دولة الخلافة سنجد أنهم انقسموا الى فئتين وكأن طبيعة السلوك البشري وبناه هي التي قسمتهم وليست البيئة
المفروضة.
كذلك ومن منظور تجربة زمباردو يمكن أن تكشف لنا عملية التحاق الافراد بالجماعات المتطرفة بانها عملية لا تكتفي بنزع هوية الشخص أو تفتيت فرديته فقط، بل تدعيم احساسه بانه كبش فداء لكي يتم بعدها التمهيد الى امكانية أن يضحى به في أي وقت، أي جعله يأخذ وضعية الضحية مقابل ان يكون الفرد الاعلى في الترتيب التنظيمي لداعش جلادا، تسلطيا.
لذا يشبه الوضع داخل دولة الخلافة الوضع داخل السجن في تجربة زيمباردو، هكذا يأتي الموت سهلا مستساغا بين سكان هذه الدولة كأنه هو الوضع الطبيعي بل الحقيقي، وما المطلوب إلا إنشاء سردية للموت حتى تجد الانسان سيذهب صوبها.