هل تصلح الماركسيَّة لهذا العصر؟

الصفحة الاخيرة 2022/03/02
...

 جمال العتابي
 
وبين الشك في عنوان الأول، والإثبات في الثاني، مسافة تدعو للتدقيق في الحالين، بين الماضي بفعل (كان)، والتأكد واليقين بسؤال تيري، وإزاءهما سيكون السؤال الأجدر للجدل بتقديرنا: هل يصلح ماركس لهذا العصر؟
أو للمستقبل كذلك؟
تبدو المهمة عسيرة، لأننا نخاطب الجانب الأعمق والأدل في الفكر الماركسي، ولكي نتبين هذا الافتراض، علينا أنْ نجد أكثر من برهان خشية الوقوع في استنتاجات خاطئة.
تضمن كتاب الظاهر محاور عديدة، وأسئلة وأجوبة، وهي مجموعة مقالات كانت منشورة سابقاً، وسواءً اتفقنا أم اختلفنا حولها، فهي قائمة وجديرة بالانتباه، كونها تفتح أمامنا نوافذ جديدة في قراءة الماركسيَّة، ومن شأنها تحقيق حوارات ثريَّة لاحقة تعمق الصلة بالأسئلة المطروحة، وجهدٌ كهذا الذي قدمه الظاهر يحقق تفاعلاً مع الآراء والطروحات الجديدة التي شكلت بمجملها تياراً فكرياً مختلفاً مع الماركسيَّة، ونحن بحاجة لحوارٍ من هذا النمط وصولاً إلى فهمٍ متجددٍ لدروس التاريخ.
استهل رضا كتابه بفصل عنوانه: ماركس يعود.. الماركسية تولد من جديد، ويخلص فيه بالقول: إذا أردنا لماركس أنْ يبقى حياً، أي أنْ نعيده من الصقيع الجامد إلى دفء الحياة، فعلينا أنْ نفعل، كما فعل هو مع ديالكتيك هيغل، أي أنْ نوقف ماركس على قدميه بعد أنْ أوقفناه طويلاً على رأسه، المشكلة إذاً تتمثل بإزالة التشويه الذي أُلحق بماركس من قِبَل من يُسمون أتباع ماركس، كما يرى (أريك فروم) وهو مفكرٌ أميركيٌّ كبيرٌ من خارج الصف الماركسي، في كتابه «مفهوم الإنسان عند ماركس»، ويعتقد رضا الظاهر أنَّ ماركس يظل راهناً فاعلاً، وسط كل الضجة التي يثيرها خصومه، ويبقى تحليله الاقتصادي مسألة لا جدال فيها، ويستند بهذا الرأي الى أنَّ عصرنا الراهن، عصر تطور الرأسماليَّة وتقدمها، يشهد الكثير من الشروط والاتجاهات التي حددها ماركس في نقده للاقتصاد السياسي، ولعلَّ من بين أفكار ماركس التي يؤكدها واقع اليوم أنَّ رأس المال هو أساس تيار اغتراب البشر.
ولا يزال اكتشاف قوانين الرأسماليَّة في الرأسماليَّة المتعولمة المعاصرة.
قبل أكثر من 170 عاماً، كتب ماركس وأنجلز البيان الشيوعي، جاء فيه: إنَّ ما تخلفه البرجوازيَّة، قبل كل شيء، هم حفّارو قبرها، إنَّ سقوطها وانتصار البروليتاريا أمران حتميان، غير أنَّ الرأسماليَّة العالميَّة عوّمت حفاري قبرها لكي تبقي حيَّة، فهل انتهى ماركس؟، يجيب الكاتب بالنفي البات، إنما يجعل ماركس جديراً بالقراءة في عصرنا، ليست تنبؤاته (المتفائلة)، إنما تشخيصاته التي تتردد أصداؤها حتى اليوم.
ما من شك أنَّ النظام الفكري الذي طلع به ماركس، وأصبح من بعده عقيدة وأسلوب عمل، يعدّ من أكثر النظم التي قُدّر لها أنْ تلعب دوراً بالغ الأثر في تطور المجتمع الإنساني، ولكن ماركس بنى مذهبه في ضوء رأسماليَّة القرن التاسع عشر، ولم يتناول في حينها المسائل التفصيليَّة، وخاصة ما يتصل منها بالتطبيق، وما كان له أنْ يفعل ذلك، وإلا تحول فاندرج في عداد أصحاب اليوتوبيات، وعالم المتخيل، وكان من الطبيعي أنْ ينشب الجدل في صفوف تلامذته وأتباعه بشأن المعاني الحقيقيَّة التي تنطوي عليها تعاليم المعلّم الأول، وكانت الأمميَّة الثانية، الساحة التي شهدت الجدل العظيم، وراح من يدّعون التمسك بالماركسيَّة الأرثوذوكسية يرمون من يخالفهم الاجتهاد في التفسير، بالانحراف تارة، وبالمروق تارة أخرى، وبالانتهازيَّة تارة ثالثة، ومع هذا ظل الجدل لا يتعدى نطاق التجريدات والتعميمات النظريَّة البحتة، ومن هنا لم يكن من السهل التعرف على مواضع القصور التي لا تتكشف إلا عند التجربة.
وكانت ثورة أكتوبر 1917 الروسيَّة، التجربة الأولى للماركسيَّة في تنظيم المجتمع وفقاً لمفهومها في سير التطور الاجتماعي، وحسب جورج لوكاش، فإنَّ هذه الثورة كان يجب أنْ تنفجر حسب توقعات ماركس في الدول الرأسماليَّة، وليست في بلدٍ متخلفٍ اقتصادياً، لذلك يعدُّ لينين هذا الحدث شيئاً 
استثنائياَ.
وإثر ذلك تنوعت المدارس الفكريَّة، وتباينت في الإطار النظري للماركسيَّةّ، وكان المفكر الإيطالي غرامشي في مقدمة من تصدى لذلك، بابتكار مفاهيم جديدة جمعت بين صيغ النضال السياسي، وتعميق وتطوير الوسائل المعرفيَّة في تحليل النظام الرأسمالي (غرامشي في العالم العربي، تحرير بروندينو، الطاهر لبيب).
وأثارت السنوات التالية للحرب العالميَّة الثانية عدداً من القضايا الخلافيَّة المتصلة بالفكر الماركسي، ولعلَّ أولها، موضوعة ملكيَّة وسائل الإنتاج، والتطبيقات الاشتراكيَّة في بلدان شرق أوروبا، وديكتاتوريَّة البروليتاريَّة التي تحولت الى دكتاتوريَّة فرد في الفترة الستالينيَّة، ثم النهاية الدراماتيكيَّة للنظام السوفيتي، وما يعرف بالنظام الاشتراكي في أوروبا الشرقيَّة.
ومع ذلك وبالرغم من كل الاخفاقات، يقول الظاهر: لا تزال أفكار ماركس تواصل إلهامها للشغيلة والمثقفين والحركات الاجتماعيَّة في سائر أنحاء عالمنا.
ويبقى إرث ماركس حياً وفاعلاً، وما حققه كارل عبر فكره المادي، هو الأسلحة النقديَّة لتقويض زعم الرأسمالي الأيديولوجي من أنها الشيء الوحيد القائم. 
لقد ظل ماركس راهناً ومثيراً للجدل على الدوام، إنَّ لهذا الاستنتاج واقع التجارب والمواقف العديدة، ويبدو هو الأكثر مقبوليَّة في الموقف من الراهنيَّة، إنَّ المبالغة في النبوءات، وهي ظاهرة لا تقتصر على ماركس وحده، إنما يوقعنا في شرك التعظيم والتفخيم بالاستناد إلى تبريرٍ من هنا وهناك، وفي الوقت نفسه الحذر من الانزلاق الى مصيدة التبخيس والتقليل من شأن النظريَّة، غير أنَّ الموضوعيَّة تقتضي أنْ نضع الماركسيَّة في نصابها الفكري الحقيقي، وأنْ نزن هذا النصاب في تاريخيته، وراهنيته على السواء، وأنْ نعود لماركس كمفكرٍ وإنسان، صحيح أنَّ عبقريته في كشف القوانين التي تتحكم في العالم الرأسمالي القائم على الاستغلال، كانت حدثاً عالمياً مدوياً، وفي مقدمتها قوانين الصراع الطبقي، وفائض القيمة، وهو بهذا الاكتشاف تصدر اقتصاديي عصره البرجوازيين منهم، أو 
الاشتراكيين.  يقول الكاتب البريطاني الساخر جورج برناردشو: كان ماركس مفاجأة مذهلة لي، لقد فتح عيني على اتساعهما على حقائق التاريخ والحضارة (قصة حياة ماركس - فرنسيس وين). 
لقد قدمت الثورة التكنولوجيَّة العالميَّة، وتقدم وسائل الاتصال إنجازات حاسمة في ميادين البحوث والتسابق في ميدان المنافسة وتحقيق الأرباح، والتاريخ بالمفهوم الماركسي هو مجرى الصراع الطبقي (مستغِل ومستغَل)، من الصعب قبول هذه الثنائيَّة كونها تتحكم بالمسار التاريخي في العالم، إنَّ ما تحقق يعود بالأصل إلى العقل كمصدرٍ للمعرفة، أو كمرجعٍ في شؤون الكون والإنسان والمجتمع، وغالباً ما تعارضت الماركسيَّة مع هذا النسق المعرفي الأوروبي، مثلما اختلفت مع تيارات الحداثة الغربيَّة، في حين ينبغي أنْ تكون الماركسيَّة وريثاً حقيقياً للحداثة والتغيير، وإنَّ أي تجاهل لهذا يسقط عن الماركسيَّة وجهاً معرفياً تحتاجه المجتمعات التي تنشد التقدم والنهوض. 
إنَّ الحديث عن راهنيَّة الماركسيَّة، أو قدرتها على الحضور المتجدد في الساحة الفكريَّة العالميَّة، يقتضي وضع الأحلام والخيالات جانباً، والابتعاد عن الادعاء بأنَّ الماركسيَّة وحدها تمتلك الحقيقة، والحلول الجاهزة لمشكلات العالم، في كل زمان ومكان، وبشكل مطلق.
إنَّ لغة العواطف والتمني، التي هي انعكاس غير صادق للواقع، هي لغة زائفة.
والوعي النقدي الجديد يفهم الماركسية كإحدى مرجعيات الفكر في الميادين الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة، كنظامٍ معرفي موجّه نحو التغيير، إذ لا حتميَّة في التاريخ، فالقانون التاريخي ليس اتجاهاً ثابتاً، إنما هو اتجاهٌ احتماليٌّ في واقعٍ واسعٍ وغني بالممكنات.
ومهما يكن من أمر فالكاتب الظاهر ألقى أضواءً كاشفة على زوايا من الماركسية يغشاها الظل.
ونشاركه السؤال بصيغة أخرى: هل تصلح الماركسية لهذا العصر؟.