التسوّلُ وإيجاد بعض حل

آراء 2022/03/02
...

  نرمين المفتي 
في العام 1984 وأنا في طريقي إلى عملي في مجلة (الف باء) والتي كان مقرها في شارع المغرب، لاحظت أمرا غريبا وملفتا في باب المعظم وهو مركبة {پيك آب} وقفت عند مجسر عبور المشاة وقام سائقها بإنزال أطفال ونساء.. واحدة من النساء جلبت انتباهي شاهدتها مرارا وهي تتسول في سوق باب المعظم.. 
 
اوقفت سيارتي جانبا وتابعت الذين غادروا المركبة وأيقنت أنهم جميعا (يعملون) بالتسول. وبدأت في تحقيق صحفي شمل مناطق من بغداد، حيث يكثر المتسولون واكتشفت أن عددا كبيرا منهم (يعملون) بصفة أجراء يومين عند (مقاولين) تسول وكل واحد منهم يدفع للمقاول عشرة او خمسة دنانير، حسب المنطقة التي يتسول بها، قليلون جدا كانوا قد (امتهنوا) التسول بعيدا عن سيطرة أولئك المقاولين.
في التسعينات ومع اشتداد قساوة ظروف الحصار، الاقتصادية خاصة، أصبح عدد المتسولين يرتفع بين يوم وآخر وبعضهم كانوا من الذكاء بمكان بحيث كانوا يتوزعون قرب وزارة الاعلام، حيث المركز الصحفي والمئات من الصحفيين الأجانب وقرب الفنادق، حيث الوفود الأجنبية والعربية التي كانت تزور العراق وفي غالبيتها كانت إنسانية، هؤلاء كانوا يكسبون في الشهر ما يوازي راتب موظف لأشهر وأحيانا لسنة. وارتفع ايضا عدد مقاولي التسول، مع ارتفاع عدد أولياء الأمور الذين بدل أن يبحثوا عن أي عمل لهم لمواجهة ظروف الحصار وجدوا إنَّ دفع صغارهم إلى التسول أسهل وسيلة لكسب الكثير من الاموال. 
وقامت منظمات انسانية غربية بفتح مركز إيواء للصغار منهم، كانوا يقدمون لهم وجبات الطعام ووفروا لهم المبيت والحمامات النظيفة وكتب منهجية في محاولة تشويقهم للعودة إلى المدارس، لكن المركز أُغلق بعد أقل من أربعة أشهر بسبب تسرب الصغار منها، سواء بإرادتهم أو بإرغام من أولياء أمورهم. 
ملاحظة مهمة أن قانون التعليم الإلزامي الذي كان ينص على إنزال أشد العقوبات على ولي الأمر، الذي لا يسجل ابنه في المدرسة. كان قد توقف عن العمل بذريعة الحصار والذي تسبب بارتفاع نسبة المتسربين من المدارس. 
ولي تجربة شخصية مع ثلاث شقيقات متسولات، قرب وزارة الاعلام، كن جميلات جدا، كانت الكبيرة في الحادية عشرة من عمرها والصغيرة في الخامسة. 
كانت الوسطى (ش…) اكثرهن ذكاء وأقربهن إلى الآخرين. عرفت منها أن والدهن أرغمهن على التسول، وكانت تريد العودة إلى المدرسة وكانت تخشى المستقبل حين سألتها عن مصير البنت، التي تكبر في الشوارع وأجابت بأنها تعرف وأكدت أنها تعرف كيف تدافع عن 
نفسها. 
وبادرت صديقة صحفية أجنبية إلى مقابلة الوالد وتعهدت له بأنها ستتحمل مصاريف (ش…) المدرسية، واختفت الصغيرة من قرب الوزارة واكتشفنا أنها تتسول قرب فندق الرشيد وأن والدها الذي كان يستلم مصاريف المدرسة يصرفها على نفسه. 
إنَّ القضاء على التسول لا يتم من خلال جمعهم من الشوارع وفرض غرامات لا تساوي (محصول) يوم واحد وأخذ تعهد خطي من ولي الامر، كما ينص القانون، إنما لا بدَّ من البحث عن (المقاولين) الذين يشغلونهم، وهنا اشير إلى خبر جعلني أضحك من باب شر البلية ويقول إلقاء القبض على بنغالي كان يُدخل بنغاليين إلى العراق بقصد التسول، وألقي القبض معه على أكثر من عشرين متسولا 
بنغاليا.
كذلك لا بدَّ من حملات توعية وتفعيل قانون التعليم الإلزامي ومحاولات حكومية جادة في تقليل نسبة الذين يقبعون تحت خط الفقر او عنده واية محاولة، عدا هذه الوسائل ليست إلا هواء في شبك ويعود المتسولون إلى (مواقعهم) بعد يوم او يومين من القاء القبض عليهم. وبالمناسبة، هناك متسولون يؤجرون (مواقعهم) الستراتيجية لغيرهم ليوم واحيانا لاسبوع ازاء سرقفلية عالية!