عدة توجيه إيرانية ترفع دقّة صواريخ حزب الله

بانوراما 2019/03/15
...

نيري زيلبر 
ترجمة: انيس الصفار    
يبدو أن مؤتمر السلام والأمن في الشرق الأوسط الذي انعقد في وارشو مؤخراً لم يوفق في تحقيق الكثير على طريق السلام أو الأمن بالنسبة للدول المختلفة التي حضرته. لقد كانت هناك خطابات قوية كثيرة ضد إيران بلا شك كما كانت هناك مظاهر توحد الجبهة عندما جلس رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو مع عدد من كبار المسؤولين العرب في غرفة واحدة.

 ولكن بعيداً عن الاضواء الساطعة في هذا المؤتمر الذي أعد له ترامب، وعلى الطرف الفعلي الجاد من المعركة ضد إيران، كان مسؤولو الأمن الاسرائيليون منشغلون بهمّ واحد لا غير يطلقون عليه اسما هو: الحقائب.

من خلال مقابلات أجرتها معهم مجلة “ديلي بيست” أفضى مسؤولون عسكريون اسرائيليون رفيعو المستوى بتفاصيل جديدة حول خطط إيرانية لتحويل ترسانة كبيرة من الصواريخ يصفونها بأنها “غبية نسبياً” في سوريا ولبنان الى شبكة فتاكة من القذائف الموجهة عالية الدقة. يكمن السر، كما تقول اسرائيل، في عدّة تعمل بنظام تحديد المواقع العالمي “جي بي أس” لا يزيد حجمها على حجم حقيبة سفر عادية.
على مدى السنتين الاخيرتين كان شبح الحرب الاسرائيلية الايرانية يتنامى في سوريا والدول المجاورة لها. لكن مع مطلع العام 2017، ورغم استمرار الحرب الاهلية الدائرة، شعر نظام الرئيس السوري بشار الاسد أنه قد حصل على ضمانة نسبية طمأنته الى بقائه في السلطة، كان ذلك بفضل تدخل روسيا وإيران وحزب الله اللبناني بالاضافة الى فصائل أخرى مختلفة من الجماعات التي تدعمها إيران. وإذ بدا حليفها أكثر أمناً واطمئناناً انصرفت إيران الى خطة واسعة الابعاد تهدف الى توسيع نطاق نفوذها في سوريا الجديدة. 
 
التعبئة ضد اسرائيل
في الشهر الماضي تحدث الفريق “غادي آيسنكوت”، رئيس اركان قوات الدفاع الاسرائيلية الذي تقاعد مؤخراً، الى صحيفة نيويورك تايمز قائلاً: “كان منظور ايران هو بناء قوة تصل الى 100 ألف مقاتل يتم استقدامهم من باكستان وافغانستان ودول أخرى. ولتحقيق ذلك الهدف قاموا بإنشاء قواعد استخباراتية وقواعد لقوتهم الجوية داخل كل قاعدة جوية سورية. من بعد ذلك تم استيعاب مدنيين لأجل التعبئة بالفكر العقائدي.” وكان الجنرال الاسرائيلي يقصد التعبئة الايرانية للناس ضد اسرائيل. في نهاية المطاف اخذت إيران تحاول ادخال انظمة وصواريخ وقذائف مضادة للطائرات وبرنامج خاص للطائرات المسيرة بلا طيار. كانت مساعي إيران لنقل الاسلحة المتقدمة الى حزب الله عبر سوريا مستمرة، ولكنها بالنسبة لاسرائيل كانت تمثل “
خطا أحمر”. وأوضح الجنرال آيسنكوت أن قوات الدفاع الاسرائيلية واضبت منذ منتصف العام 2017 على توجيه الضربات الى داخل سوريا عدة مرات في الاسبوع لوقف ما يسميه المسؤولون الاسرائيليون “التخندق الإيراني” على حدودهم الشمالية. وتفيد التقارير أن مئات الضربات الجوية قد نفذت ويقول آيسنكوت أن ما لا يقل عن 2000 قنبلة قد القيت خلال العام 2018 وحده.
تأثير ذلك كان حاسماً، فخلال الاسبوع الماضي قال نتانياهو عبر مقابلة له مع محطة صوت أميركا الناطقة باللغة الفارسية أن الإيرانيين لا يزالون موجودين في سوريا، ولكن هذا التواجد كان سيصبح أعظم خطراً لولا ما فعلته اسرائيل، على حد قوله، منوها بأن ذلك الوجود قد تقلص بدرجة من الدرجات. ومع مطلع العام 2018 بدأت القوات الإيرانية الموجودة على الاراضي السورية بالرد المباشر على اسرائيل، حيث أسفرت عملية اختراق نفذتها طائرة مسيّرة مسلحة خلال شهر شباط عن ضربات جوية اسرائيلية استهدفت برنامج الطائرات المسيرة الايراني المشار اليه، ثم تلا ذلك في شهر أيار قصف بمجموعة من الصواريخ. وعندما جاء شهر كانون الثاني الماضي استهدفت قذيفة موجهة منتجعاً اسرائيلياً للتزلج على مرتفعات الجولان، إلا أن  نظام القبة الحديدية اعترض القذيفة التي يعتقد أنها الاولى من نوعها التي تطلق على اسرائيل من داخل
 سوريا.
تغير التكتيك الايراني
بعد ذلك كانت اسرائيل تؤكد بأنها هي الرابحة في حرب الظل تلك، وهي نقطة لم يعد القادة السياسيون والعسكريون الاسرائيليون يترددون عن المجاهرة بها خلال الاسابيع الاخيرة، بل أنهم في كثير من الاحيان صاروا يتحدثون بصيغ شخصية ونحو مباشر عن مهندس هذا الجهد الايراني الخفي، وهو قائد قوة القدس المنتخبة ضمن فيلق الحرس الثوري الايراني الجنرال قاسم سليماني. في حديث مع صحيفة نيويورك تايمز قال آيسنكوت، قاصداً بكلامه القائد الايراني: “كان خطؤه أن اختار ملعباً هو الاضعف فيه بالقياس النسبي، لأننا نمتلك التفوق الاستخباري الكامل في المنطقة، كما نتمتع بالتفوق الكامل جواً. نحن لدينا وسائل ردع قوية كما نمتلك المبرر لاتخاذ اي اجراء.”  وبالنظر الى خسارة كل هذه الاعداد من منظومات الاسلحة والرجال على هذا النحو المستمر وجدت إيران نفسها مرغمة على تغيير اسلوبها، وهنا توقف ارسال الحاويات المحملة بالمعدات الحربية الى سوريا، بما في ذلك الصواريخ الدقيقة. وعند نقطة معينة إرتأت إيران أن حتى اجزاء الصواريخ المفككة قد تكون اكبر من أن تجازف بإرسالها. تساءل ضابط اسرائيلي كبير بطريقة خطابية قائلاً: “لقد أوقفوا نقل الاسلحة الثقيلة من مكان الى آخر منذ وقت طويل، إذا فما الذي تعتقدون أننا نضربه الان في سوريا؟”  أجل .. ما الذي تحاول اسرائيل ضربه داخل سوريا الآن؟
كان الهدف المقصود هذه المرة غالباً هو قطع ومكونات تستخدم لبناء جهاز يساعد على تحديد المواقع لا يزيد حجمه على حجم حقيبة سفر صغيرة. هذه المعدات يمكن تركيبها، حين تتوفر القدرات الفنية المناسبة، على أي صاروخ “غبي” غير موجه لتحوله الى قذيفة صاروخية موجهة عالية الدقة تستطيع ضرب أي هدف بفارق خطأ لا يتعدى أمتاراً قليلة. ويرى المحللون العسكريون أن هذا الاسلوب له مزايا مناسبة جداً تنسجم مع نظرة إيران. فأنظمة التسلح الاكبر حجماً يسهل تتبعها وتدميرها، في حين يمكن نقل هذه “الحقائب” مباشرة من إيران براً أو جواً الى سوريا أو لبنان.
 
تهديد حزب الله لإسرائيل
 في شهر تشرين الأول الماضي عرضت وكالة “فوكس نيوز” للانباء تقريراً ادعى أن مكونات جهاز تحديد المواقع تلك كانت تنقل جواً الى بيروت مباشرة على متن طائرات الخطوط الإيرانية المدنية. (التقرير المذكور، وهو واحد من عدد قليل من التقارير التي تناولت موضوع جهاز تحديد المواقع، ربما تكون المخابرات الاسرائيلية نفسها قد سربته من اجل تسليط الضوء على هذه الممارسة).
العامل المتغير الوحيد في هذا الاسلوب ببساطة هو عدد الصواريخ المتاحة وعدد منظومات تحديد المواقع المتوفرة. من المعلوم ان هنالك في سوريا ترسانة كبيرة من الصواريخ المتبقية، كما ان من الواضح أن هناك صواريخ أكبر حجماً، وهو ما اثبتته رشقة الصواريخ التي سقطت الشهر الماضي، ولكن سيد الساحة بلا منازع في هذا ا لميدان هي قوات حزب الله اللبناني بصواريخه التي يقدر عددها بما بين 100 و150 ألف صاروخ متنوعة المديات والحمولة مسددة جميعها باتجاه اسرائيل. أما الميزة الاخرى التي تقدمها لبنان فهي أن اسرائيل لا تمارس قصفها ضد الجارة الشمالية، بخلاف سوريا، وسبب الامتناع تحديداً هو هذه الترسانة الضخمة الرادعة التي يمتلكها حزب الله.
لا يفتأ المسؤولون الاسرائيليون يذكرون بأن خريطة بلدهم تتصف بالطول امتداداً والضيق عرضاً، وهذا معناه أن توجيه ضربة الى مجموعة من الاهداف الستراتيجية الاسرائيلية (مثل مطار بن غوريون الدولي ومفاعل ديمونة النووي وعدد من محطات للطاقة الكهربائية والقواعد العسكرية) قد يسبب آثاراً حاسمة. وقد عرض حزب الله شريط فيديو دعائي كان مفعماً بصور الاقمار الاصطناعية والاحداثيات التي تظهر فيها بوضوح هذه المواقع وسواها والتي تعد فيها هدفا تحت نيران صواريخ الحزب. لذلك فإن زيادة دقة الصواريخ سوف ترفع بدورها مستوى الخطر، ومعه تزداد درجة تنبه اسرائيل لهذا التهديد.
يقول ضابط اسرائيلي رفيع المستوى من مقره في احدى القواعد القريبة من تل ابيب: “باستطاعة جنود حزب الله الآن أن ينزلوا صاروخاً على هذه البناية التي نجلس فيها، فحين تركب أجهزة تحديد المواقع على الصواريخ تصبح لهذه قدرات تتخطى الحدود، الأمر كله متوقف على عدد ما يمتلكونه من هذه الاجهزة.”في الواقع ان امتلاك العدة والصواريخ معاً عند الطلب أمر مهم هنا، ولكن الذي لا يقل أهمية عن ذلك هو امتلاك المعرفة الفنية والمكان الذي يمكن فيه اجراء عملية التطوير. من المعلوم ان المهارات الفنية متوفرة، وذلك بفضل التقدم الذي حققه الإيرانيون في مجال البحوث والتطوير وكذلك المدى الواسع والترابط المحكم الذي وصلت اليه الشبكات العسكرية التابعة للحرس الثوري الإيراني التي تنشط في نقل الخبرات المعرفية والمكونات التركيبية الى لبنان وسوريا والعراق واليمن.
جاء في تقرير حديث مفصل يتناول هذا الموضوع أصدره المركز البريطاني للاتصالات والبحوث في اسرائيل، أن التركيز منصب حالياً (في لبنان على الأقل) على رفع مستوى دقة خزين حزب الله من الصواريخ الموجودة والبالغ عددها 14 ألف صاروخ بعيد المدى من طراز “زلزال 2”.
 
قدرات فنية عالية
أما أماكن التطوير فإن لها حكاية مختلفة، وقد استغل نتانياهو مناسبة اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في السنة الماضية في نيويورك للكشف عن ثلاثة مواقع تحت الأرض بالقرب من مطار بيروت الدولي زعم انها تستخدم لتحويل الصواريخ العادية الى قذائف دقيقة التوجيه.
بعض تقارير الصحافة استخدمت كلمة “مصانع” لوصف هذه المواقع، ولكنها تسمية خاطئة، كما يقول الضابط الكبير الذي يمضي مستأنفاً وهو يلوح بيده: “تلك ليست قاعات واسعة الابعاد كما يترائى للناس، بل يمكن أن تكون غرفاً صغيرة لا تزيد مساحتها على هذه 
الغرفة.”
بعد عملية الكشف المذكورة أغلق حزب الله تلك المنشآت، على حد زعم مصادر قوات الدفاع الاسرائيلية، ولكن العملية ستبقى دائماً لعبة “القط والفار” بين الجانبين، كما يضيف الضابط الكبير الذي يقول مستطرداً: “إن عناصر حزب الله بارعون في اخفاء آثارهم، وباستطاعتهم فتح ورش جديدة في أماكن اخرى غداً.” وبمجرد توفر نظام تحديد المواقع والصاروخ في مكان واحد فإن الباقي لن يتطلب من فريق حسن التدريب اكثر من ساعتين او ثلاث في مثل هذه المنشأة، حيث يجري تحويل صاروخ “زلزال” الى قذيفة دقيقة بإزالة الجزء الوسطي من الصاروخ، ما بين المحرك والرأس الحربي، ثم تركيب نظام السيطرة الملاحية الداخلي بدلاً منه.
يقول الضابط الاسرائيلي الكبير ان بوسعك بعد ذلك ادخال احداثيات الهدف الى نظام تحديد المواقع ثم تطلق القذيفة وانت مطمئن الى النتيجة. هنا لا حاجة لوجود منظومة للقيادة التحكم بل هو اشبه ما يكون بتطبيق “ويز” المعروف، على حد تعبير الضابط.
يزعم المسؤولون الاسرائيليون أن حزب الله لا يمتلك سوى عدد صغير من الصواريخ الدقيقة في الوقت الحاضر، وهو ادعاء يردّه حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله. فإذا ما صدقنا الادعاء الاسرائيلي سيكون معنى هذا أن مساعي قوات الدفاع الاسرائيلية واطلاقها النار غير المقيد في سوريا قد أثمرت، بيد أن دوائر معينة سوف تبقى نهباً للقلق في هذه الحالة من ان تنقل إيران قوات أكبر الى داخل المجال الجوي اللبناني الذي يبدو منيعاً وذلك بتصعيد برنامجها للصواريخ الدقيقة.
في مقابلة مع القناة الأولى الاسرائيلية في الشهر الماضي توعد آيسنكوت الجيش الإيراني بأنه سيصبح هدفاً للعمليات المضادة إذا ما حاول التخندق في لبنان.
حتى ذلك الحين تعمل اسرائيل منذ الخريف الماضي على تركيز اهتمام الاعلام الى ذلك الخطر على أمل ان يمارس المجتمع الدولي ضغوطاً على إيران وحزب الله والحكومة اللبنانية لإفشال هذا الاحتمال. هذه هي على الاقل الفكرة لتجنب حدوث حرب واسعة لا يريدها أحد. أما الآن فيبدو أن كل شيء متوقف على ما اذا كانت إيران ستختار التحرك قدماً في مناورة القذائف عالية الدقة.
يقول الضابط الاسرائيلي الكبير: “نحن نطارد الحقائب لأننا لا يمكننا السماح بحدوث ذلك ولن نسمح.”