العودة إلى مقولة الصِّدام الحضاري

آراء 2022/03/06
...

 ابراهيم العبادي
ظهرت تفسيرات عديدة في الأوساط العربيَّة والإسلاميّة تنتصر للموقف الروسي في تبرير غزو أوكرانيا، هذه التفسيرات حاولت تفادي النقد الأخلاقي الذي قد تواجهه، وبناء مشروعيَّة للحرب رغم الكوارث الناتجة عنها، من خلال بناء سرديّة مفاهيميّة جديدة، غير مقولات الجغرافيا السياسيّة والجيوبولتيك والمجال الحيوي والأمن الستراتيجي، المقولة الجديدة هي الصراع الحضاري.
 
العودة إلى استخدام مقولة الصراع الحضاري يشي بأن ثمة التباسا مفاهيمي كبيرا وقع به المروجون لهذه المقولة مجددا، بسبب الضغط الكبير الذي يواجهه الموقف المساند للحرب، دونما مسوغات كبيرة تبرر اللجوء إليها. 
معلوم إن الحروب تحتاج إلى غطاء من المعقولية تبني بها مشروعيتها السياسية داخليا ومبرراتها الاخلاقية خارجيا، فلا يمكن إعلان الحرب والتهديد بها وتحريك الجيوش، ما لم تكن هناك مسوغات لها، دعاة الحرب لهم مسوغاتهم دائما، بحق أو بغير حق، عندما لا يكون الحق واضحا والتبرير مقنعا، تكون الحرب عدوانا، تخسر به المشروعية، وتغدو تعديا على القوانين والنظم واللوائح التي تنظم علاقات الدول، وتتحمل بذلك دولة الحرب مسؤولية ما فعلت، وقد تدفع تعويضات وغرامات وتخضع لقيود والتزامات، علاوة على ارتدادات تلك الحرب داخليا وخارجيا، على الصعيد السياسي والاقتصادي، وعلى مستوى العلاقات الدولية والانسانية بشكل 
عام.
هناك أحاديث وتوقعات بأن حرب أوكرانيا ستعيد بناء نظام العلاقات في أوروبا، الذي تأسس بعد سقوط جدار برلين 1989 وانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، إنَّ عودة روسيا قطبا دوليا وقوة عظمى تتقاسم النفوذ العالمي مع الولايات المتحدة، أو دولة كبرى أقل بدرجات من مكانتها، متوقف على نتائج المغامرة في أوكرانيا، ولهذا نشطت الآلة الدعائية التي تجند لها خبراء ومفكرون ومحللون وكتاب وإعلاميون ومدونون للحديث عن مسوغات الحرب من وجهة نظر روسية، وللرد كما يقولون على الآلة الدعائية الغربية الأضخم، التي تستخدم أوكرانيا ومعاناتها أداة لإضعاف روسيا وتفكيكها، والإبقاء على القطبية الواحدية لزعامة 
العالم. الملفت إن الذين وجدوا في حرب أوكرانيا فرصة لتغيير هذه النمطية على يد الاندفاعة البوتينية، لم يكتفوا بنظريات الجغرافيين والعسكريين والستراتيجيين، وإنما أعادوا مفهوم ومصطلح الصراع الحضاري، مفترضين أن البوتينية الزاحفة على المجال الجغرافي السوفييتي السابق،تسعى إلى خلق فضاء حضاري منافس للغرب، لديه رؤية ثقافية وسياسية تدعو إلى تعددية الأقطاب في العلاقات الدولية والمحافظة على الخصوصية الثقافية وتحدي الهيمنة الأميركية.
مقولة الصراع الحضاري كانت ملاذ الكثير من المفكرين والكتاب والمثقفين العرب، لتفسير أسباب الاندفاعة الأوروبية والأميركية لاستعمار بلاد العرب والمسلمين واستتباعها وإفشال وحدتها وتقويض هويتها وخصوصياتها الحضارية 
والثقافية.
ثمة تاريخ طويل من علاقات الصراع والحرب بين الشرق الإسلامي والغرب ذي الجذور الوثنية، ثم اليهودية والمسيحية منذ حروب الفتح الاسلامي مرورا بالحروب الصليبية حتى عهود الاستعمار الحديث، ولغاية دعم وتأسيس الكيان اليهودي في فلسطين، وإلى احتلال العراق وافغانستان، هذا التاريخ الدامي خلق سردية طويلة من المفاهيم والقصص والتصورات والرؤى، لكيفية تصحيح هذه العلاقة التي صارت لصالح الغرب 
(الصليبي).
في منتصف القرن العشرين صارت مقولة الصراع الحضاري أثيرة لدى النخب الاسلامية، فقد عنت في وجوهها مقاومة الغرب سياسيا وثقافيا واقتصاديا، ومواجهته مواجهة حضارية شاملة، حتى أن المفكر حسن حنفي (1935-2021) كتب كتابا أسماه (علم الاستغراب) ردا على علم الاستشراق، الذي كون رؤية واداة الغرب في غزو بلاد المسلمين، بينما كان مفكرون وكتاب يستفيضون في الحديث عن المركزية الغربية والمركزية الاسلامية، أمثال العراقي 
د. عبدالله ابراهيم والفلسطينيين منير شفيق (1934 -) والشهيد د. فتحي الشقاقي (1951 - 1996). مع صدور كتاب صراع الحضارات عام 1996 للأميركي الشهير صموئيل هنتغتون (1927 - 2008) والذي توقع فيه أن تكون الصدامات القادمة، ذات طابع يتجاوز الدول إلى الحضارات،لأنها ستكون صراعات قيمية وثقافية ودينية، انهالت الردود عليه من كل مكان في العالم، لا سيما من العالم الاسلامي، اتهمناه بالعنصرية والتسويغ للحروب القادمة بذرائع ثقافية وفكرية، بما يعبد الطريق لحروب تكرس الهيمنة الغربية عامة والأميركية خاصة، تم الرد عليه لتهديم فكرة انطلاق الصراعات وفق منظورات دينية وثقافية، لأنها ستكون حروبا لا تتوقف، ولا سبيل للسلام بين البشر الا بخضوع الحضارات الأضعف للحضارات الأقوى، والحضارة القوية القائمة والمسيطرة هي الغرب بطبيعة 
الحال. 
أردنا بذلك منع صيرورة مقولة الصراع الحضاري اداة مفاهيمية تستخدم ضدنا نحن الأضعف حضاريا في هذه اللحظة من تاريخ 
العالم.
اليوم تستعاد مقولة الصراع الحضاري بعد أن هدأ تداولها في الأدبيات السياسية والثقافية، بسبب صعود العولمة وانكسار الكثير من الحواجز بين الدول والثقافات، بل استُعيض عن هذه المقولة بمقولة حوار الحضارات، وتمت الدعوة إليها من على منابر الأمم المتحدة ومنظماتها بعد اقتراح من الرئيس الإيراني محمد 
خاتمي.
تثير هذه العودة الاستعمالية رغبة عارمة في رؤية اصطدام بين قوة (شرقية) ذات خصوصية حضارية، وهي روسيا البوتينية هنا، بينما الخصم هو الغرب الطاغي الذي يتمدد على حساب الآخرين، ويجتذب الدول، دولة بعد أخرى، وآخرها أوكرانيا، فاقتضى الأمر تدميرها لتنكسر شوكة حلف الناتو وزعيمته أميركا، بأمل حجز مقعد للدب الروسي ليكون قطبا حضاريا منافسا شرسا ونظيرا مكافئا للدب الأميركي المتفرد بالغابة البشرية منذ 33 
عاما. 
لكن هل روسيا مصنفة حقا خارج الغرب والمنظومة الحضارية الغربية؟ هل ثمة تمايزات دينية وثقافية وقيمية كبيرة تجعلها مؤهلة لصيرورتها نموذجا حضاريا آخر ينفعنا في منع الغرب من تكريس نموذجه؟ هل التاريخ والهوية الروسية الحديثة بعيدة عن السياق الحضاري الاوربي؟ الإجابة عن هذه الاسئلة بموضوعية كافية، تحدد إمكان القبول أو الرفض لفرضية تصنيف حرب أوكرانيا. 
صراعا حضاريا ام مجرد أمنية ؟ أم إنها على شاكلة الحروب الاستباقية والقومية كالذي عاشته أوروبا طوال تاريخها الحديث 
والمعاصر؟.
أمامنا جدالات طويلة وصراع أفكار وأهواء وتقديرات في هذا الصدد نكرر فيها انشغالات أسلافنا الذين ناصروا هتلر النازي نكاية 
ببريطانيا.