الكمون والسياسة

الصفحة الاخيرة 2022/03/08
...

حسن العاني 
عرفت العربُ مثلما عرفت الشعوب الأخرى مادة حملت اسم (الأمثال)، وتم التعاطي معها واستعمالها لأداء وظيفة الدفاع عن النفس وتعزيز حجة المتحدث والرد على الخصم، ومعلوم أن الأمثال تنطوي في كثير من الأحيان على قدر من الحكمة والمنطق، ويبدو أن اهتمام العرب بها في العصر الجاهلي ثم العصور اللاحقة، جعلهم يضعون لها شروطاً ومواصفات (صارمة) لا يجوز التغاضي عنها، من ذلك أن أي مثل لا تقف وراءه حكاية حقيقية لا يعتد به، ومن ذلك أن المثل يؤخذ كما هو (أي على علاته) بمعنى حتى لو تضمن خطاً في الصياغة أو البناء اللغوي أو النحوي (وإن كان مستحيلاً)، وآية ذلك أن المثل ابن اللحظة والموقف الآني الذي يتعرض له الإنسان فيقول كلاماً عفوياً وسريعاً، وهو أول ما يخطر على بال قائله. وقد بلغ الاهتمام بدراسة الأمثال أن المعنيين بها رفضوا الاعتراف بأي مثل بعد العصر الجاهلي وأن كان متوفراً على الشروط جميعها، وأطلقوا على أمثال ما بعد ذلك العصر اسم (الأمثال المولدة) تمييزاً لها عن الأمثلة (الأصيلة) التي وردت في مرحلة سابقة على ظهور الإسلام. 
تنبهت في وقت متأخر جداً مع الأسف إلى أن (الأمثال الشعبية العراقية) تخضع لشروط الأمثال الفصيحة، وخاصة شرط (الحكاية)، أي إن أي مثل شعبي يخلو من الحكاية الواقعية لا قيمة له، ولعله من حسن الحظ أن استمع إلى محاضرة مباشرة ألقاها التراثي الدكتور رافع أسعد وهو يتناول حكاية المثل المشهور (اواعدك بالوعد واسـﮔيك يا كمون)، ولم أكن أدرك حقاً ماهي علاقة الوعد بالكمون بالسقي قبل أن يوضح الدكتور الحكاية، ومفادها أن نبات الكمون يكتفي بالقليل من الماء، وكان الفلاح كلما سقى زروعه ووصل إلى الكمون يتركه من غير سقي (ويعده) في مرة مقبلة، وهكذا كانت وعوده تتكرر حتى فوجئ يوماً بموت هذا النبات عطشاً، ومن طريف ما ذكره المحاضر أن أحد شعراء الفصحى ذكر هذا المثل في بيت من الشعر الفصيح (لا تجعلوني ككمون بمزرعة/ إنْ فاته السقي أغنت مواعيد)!.
فجأة خصني الدكتور بسؤال غريب – ربما أغرته شيبتي – وهو أن أذكر حادثة تنطبق عليها حكاية (الوعد والكمون) فقلت له [الزوج الذي يواعد زوجته بخاتم ذهبي في عيد ميلادها، وتمضي السنوات وتموت الزوجة ولا تحصل على الخاتم]، وضجت القاعة بالتصفيق والضحك، قال لي [احسنت.. هل يمكن أن تضرب لي مثلاً من حياتنا السياسية.. ومن هو الكمون في هذا المثل ؟!]، أجبته [آسف.. أنا حمار في السياسة وأخاف منها!] قال لي [أقسم أنك تعرف مثلما أعرف أنك تعرف ما يمكن أن يقال عن الوعود والسياسة، وتعرف من هو المقصود بالكمون في هذا المثل]، وبينما ابتسم بخبث وابتسمت ببلادة، لاحظت أن الجمهور قد غادر القاعة عن بكرة أبيه!.