جيوبولتيك الصراع الأوكراني الروسي

آراء 2022/03/09
...

  نسيب شمس
 
يعد الجيوبولوتيك أحد أهم العناصر لتحليل سياسة أي دولة، وأحد أهم المحدّدات لاتخاذ قرارها السياسي، سواء على الصعيد الخارجي أو الداخلي. ومن ثم، فإن عامل الجغرافيا السياسية هو ما يبقى على استمرارية توجهات أي دولة رغم تغير قيادتها السياسية، ذلك أن محدّدات الجغرافيا السياسية تعتمد على عناصر أكثر رسوخاً. يظهر هذا الأمر في الحالة الروسية بشكل واضح، حيث أجبرت الجغرافيا السياسية روسيا التاريخية على استمرارية توجهات معيّنة على امتداد حقب تاريخية متعدّدة. وبرغم التغيير الأيديولوجي بدءاً بروسيا القيصرية، مروراً بالثورة البلشفية والاتحاد السوفياتي، وانتهاء بروسيا الاتحادية، يمكن للمتابع أن يدرك استمرارية نمط معين في السياسة الروسية نابع من محددات الجغرافية السياسية التي تؤثر فيها.
وبالتالي، فإذا كان لكل دولة كبرى مسلماتها "الجغرافية الستراتيجية"، أي الإدارة الستراتيجية للمصالح "الجيوبولتيك "، التي لا يمكن التنازل عنها لأنها مصيرية، فإن لروسيا الاتحادية أيضاً مسلماتها التي تندرج في ما يسمى "المحيط المباشر"، كونه يشكل عماد كيان الأمن القومي الروسي، يتمثل المحيط المباشر لروسيا الاتحادية اليوم، بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، في الخط المباشر من جورجيا وأوكرانيا مروراً بتشيكيا وبولندا وحتى حدود دول بحر البلطيق.
تبلغ مساحة روسيا الاتحادية 17 مليون كيلومتر مربع، أي ما يقارب مساحة الولايات المتحدة الاميركية والصين معاً. هذه المساحة الهائلة لدولة واحدة تفرض على روسيا الاتحادية عوامل سياسية متعدّدة على رأسها أنها كدولة مترامية الأطراف، هي في الوقت ذاته، دولة مستباحة الحدود. ومعضلة روسيا الاتحادية أنه ليس لها حدود دفاعية، لذلك ظلت وسيلة الدفاع الرئيسة لروسيا على مر العصور هي التوسع الجغرافي عسكرياً وسياسياً خارج حدودها.
وهناك معضلة أخرى في ما يخص جغرافية روسيا الاتحادية وهي أنها، رغم اتساع مساحتها، ليس لها منافذ مفتوحة على أعالي البحار. فمن جهة الغرب تطل مدينتا سان بطرسبورغ وكاليننغراد على بحر البلطيق الذي يفصله عن بحر الشمال مضيق أوريسند، كما أن كلاً من ألمانيا وانكلترا تطلان على بحر الشمال، وهو ما يمثل عائقاً آخر أمام اتصال روسيا الاتحادية بالمحيط الاطلسي. 
وجنوباً تطل مرافئ روسيا الاتحادية على البحر الأسود الذي يفصله عن البحر الأبيض المتوسط مضيقا البوسفور والدردنيل في تركيا، وشرقاً تعد مدينة فلاديفوستك الميناء الأهم لروسيا الاتحاد على بحر اليابان والمحيط الهادئ ولكن نظراً لقربها من المدار القطبي فروسيا الاتحادية بشكل عام تعاني عجز الإطلالة على مياه دافئة طوال العام.
بينما تعتبر أوكرانيا الخاصرة الطرية لروسيا الاتحادية، وهي مثل جورجيا، إذا ما خضعت لتأثير دولة عظمى منافسة، فقد تكون منصة الانطلاق الأخطر إلى قلب روسيا الاتحادية، خصوصاً في ظل غياب أي مانع جغرافي 
طبيعي. يكفي النظر إلى الخريطة والمسافة الفاصلة بين كييف وموسكو لمعرفة مدى جدية القلق الروسي إزاء ما يحدث في أوكرانيا والإرادة الفولاذية، التي أظهرتها روسيا الاتحادية في ضم شبه جزيرة القرم إلى أراضي روسيا الاتحادية، فضلاً عن أن الشريط الفاصل بين الحدود الأوكرانية وكازاخستان عبر القوقاز يبلغ 600 كيلومتر فقط، ما يسهم في خلق ثغرة أخرى لموسكو في حال خسرت سيطرتها في القوقاز.
تسمى أوكرانيا بالحافة؛ ذلك لأنها تقع على سهل فسيح. وتعتبر أوكرانيا دولة متوسطة بالمعيار الجغرافي، حيث تتجاوز مساحتها بقليل الستمئة ألف كيلو متر مربع. وهي ثالث أكبر دول الاتحاد السوفياتي السابق، بعد روسيا ذات السبعة عشر مليون كيلو متر مربع، وكازاخستان، التي تبلغ مساحتها مليونين وسبعمئة وعشرين ألف كيلومتر، والتي تشكل ثالث أكبر دول آسيا بعد الصين والهند على التوالي.
لدى أوكرانيا حدود طولها 4566 كيلومتراً، أكبرها مع روسيا الاتحادية، بواقع 1576 كيلومتراً. كما تمتد سواحلها على طول 2782 كيلومتراً. وتقع هذه السواحل على البحر الأسود وبحر آزوف. وتعد أوكرانيا دولة صناعية ومصدر للمعدات التكنولوجيَّة المدنية والعسكرية. ينحدر أكثر من 40 بالمئة من سكان أوكرانيا من أصول روسية.
ولا تقل أوكرانيا أهمية من وجهة نظر الاتحاد الاوروبي، في أكبر دولة في أوروبا خارج الاتحاد الاوروبي، اعتُبرت دائماً حافة الشرق الأوروبي ونهاية غرب القارة. 
وزادت الاهمية الستراتيجية لأوكرانيا بعد انهيار الكتلة الشرقية وحلف وارسو، ومن ثم الاتحاد السوفياتي ما وضع نهاية للحرب الباردة عام 1991.
ولا شكّ أن تفكيك تعقيدات الجيوبولتيك الروسي والاوكراني ما يساعد على تفكيك شيفرة الصراع الحالي.