{آية}.. ثيمة تُمجِّد المكان وأداء مُبهّر يخلو من التصنّع والافتعال

الصفحة الاخيرة 2022/03/13
...

  عدنان حسين أحمد
على الرغم من ندرة الأحداث في فيلم "آية" للمخرج الفرنسي من أصول بلغارية سيمون گيلارد، إلا أن قصته السينمائية محتشدة بالثيمات الرئيسة والفرعية التي تقول أشياء كثيرة عن الحب الأول، وترصد المسافة الزمنية التي تفصل بين مرحلة المراهقة وسن البلوغ، وأكثر من ذلك فإن السيناريو يعجُّ بأفكار حيوية تتمحور حول التغيير المناخي، والدفاع عن الهوية، ومشكلة الهجرة بمعناها الأوسع من دون أن ننسى الالتماعات الذهنية، التي تتعاطى مع أفكار الولادة والموت وما بينهما من حياة قصيرة، مهما طالت، يملؤها الإنسان بالعمل الدؤوب أو الركون إلى الكسل والاسترخاء أو المزاوجة بينهما معاً.
 يعتمد گيلارد في فيلمه الروائي الطويل الأول "آية" على التلاقح مع تقنية الفيلم الوثائقي والإفادة منه بحدوده القصوى، خاصة في ما يتعلّق بالشخصيات الرئيسة والمؤازِرة، التي تُمثّل لأول مرة، خاصة آية "ماريا جوزيه كوكورا" التي جسّدت دور البطولة بمهارة وإتقان واضحين، وهذا الأمر ينسحب على بقية الشخصيات القروية التي لعبت أدواراً مختلفة في هذا الفيلم "السهل الممتنع"، الذي يمكنك أن تشاهده، ويصعب عليك الاتيان بمثله، آخذين بنظر الاعتبار أنّ قصة الفيلم هي من تأليف المخرج نفسه الذي يدّعي بأن القصة كتبت نفسها بنفسها، وكما هو معروف فإن سيمون گيلارد قد أنجز أربعة أفلام قصيرة ومتوسطة الطول، وعمل في الجانب الغربي لساحل العاج وخليج غينيا قرابة عشر سنوات، وكان يبحث عن أمكنة لتصوير فيلمه الروائي الأول، لكن ما إن وقع بصره على جزيرة لاهو Lahou المقابلة لساحل العاج والتابعة له، حتى وجد ضالته المنشودة في ثيمة القصة، ومكان تصوير أحداثها، والشخصيات التي تعيش في هذه الجنة الأرضية، التي سحرت البعض مثل "آية"، وأجبرت البعض الآخر على الرحيل مثل أمها باتريشيا، وبقية سكّان القرية، الذين نقلوا رفات أمواتهم وألواح بيوتهم إلى أماكن بعيدة عن أمواج المحيط والمدّ الصاعد لنهر بانداما، الذي يلتقي بخليج غينيا، فـ "لاهو" ليست مكاناً خيالياً كما يتصور بعض النقاد الأجانب، وإنما هي قرية حقيقية لا تزال آثارها القديمة شاخصة مثل الكنيسة والمقبرة القديمة التي أُسست قبل 300 سنة من هذا التاريخ.
تتمحور ثيمة الفيلم على جملة واحدة مفادها يمكن أن يرتفع موج البحر لكن "آية" لن تغادر جزيرتها أبداً، فـ "لاهو" هي الحبل السّري الذي يربطها بهذا المكان الفردوسيّ الساحر، وإنّ اختفاءه هو غياب كلي لذاكرة الطفولة، ومنبع الأحلام المُرهَفة الأولى، لا يُسهب المؤلف ومُخرج الفيلم في الحديث عن التغيّير المناخي ولكنه يلمِّح إليه من خلال هيجان البحر والتهامه لبعض الجزر، وقضمه المتواصل للمناطق الهشّة من اليابسة. تبدأ الانعطافة الأولى في حبكة الفيلم، حينما تصل أمواج المحيط الضارية إلى حافة المقبرة التي كانت تبعد عن الساحل، فيما مضى مسافة ساعتين مشياً على الأقدام وصار بإمكانها أن تقوّض القبور وتلتهم عِظام الآباء والأجداد، الأم باتريشيا كانت مهمومة بابنتها المُراهقة "آية"، التي تملأ البيت فرحاً ومسرّة وتحاور أمها بطريقة جريئة وحميمة وهي تسألها عن عشقها الأول، وفتاها الذي غازلها أول مرة وأوقعها في شِباك غرامه، ثمة فجوة دائمة بين الأجيال كلها، فلا غرو أن تستغرب الأم باتريشيا من سلوك ابنتها "آية" وتصرفاتها الطائشة، فهي تخرج أول النهار إلى الأيكة وتعود في آخره، وهي تحمل بيديها بضع جوزات هند غير ناضجة، لأنها منهمكة بتبادل القُبل مع حبيبها "جونيور" وتزجية الوقت معه طوال النهار، وإذا ما توفر لها بعض الفراغ فإنها تغفو على رمال الشاطئ، وحينما تستفيق تجد نفسها أمام غضب الوالدة وتقريعها المتواصل.
ما يميز هذا الفيلم هو لوحاته الصوتية والبصرية في آنٍ معاً، وربما تكون عملية هدم القبور ونقل رفاتها بصناديق بلاستيكية وشحنها بالزوارق الملونة على سطح النهر بمصاحبة الترانيم والأناشيد الدينية، هي من أجمل المشاهد التي أحاطها المخرج گيلارد بعناية خاصة لا تُغادر ذاكرة المتلقي بسهولة.
يغادر القرويون جزيرة "لاهو" تباعاً بينما تنهمك الأم باتريشيا في نقاش مطوّل مع ابنتها "آية" عن سبب تشبثها بهذا المكان المهدد بالتآكل والفيضان، لكنّ البنت تحسم أمرها حينما تقول بيقين ثابت "أنا باقية، ولن أغادر، دعي البحر يأتي إلينا"، وقبل أن تضع الأم حداً لهذا النقاش، تطلب منها أن تجرّب الحياة المدنية التي لا تبعد كثيراً عن هذه الجزيرة، التي تحاصرها المياه، وتعيش حياة باذخة لم تألفها من قبل، لكنها لم تستسغ هذا النمط من البهرجة والصخب والانفلات. فثمة هدوء روحي تفتقره في حياة المدينة ولا تجده إلا في مزارع الجزيرة ومضاربها المكتظة بالأشجار اليانعة المثمرة.
يعلو صوت المنادي في دروب القرية مُحذراً الناس من الذهاب إلى الساحل، لأن البحر سيثور ليلاً وسوف تجرف أمواجه الكاسحة كل البيوت الخشبية فلم يعد البحر حليفاً، وإنما أصبح خصماً منذ هذه الليلة، ومنْ يمكث فهو يعرف مصيره سلفاً، ولا بدَّ من الإشارة إلى أن اسم "آية" بلغة أفيكام Avikam مأخوذ من رمز كلمة "السرخس"، الذي يمثّل القدرة على التحمّل والتحدي، وهو ما يتناغم تماماً مع شخصيتها وتوجهاتها الفكرية بصدد الثبات وعدم التفريط بالمكان لأي سبب من الأسباب.
استغرق تصوير اللقطات والمشاهد الجميلة لهذا الفيلم ستة أشهر، كما أخذ المونتاج مدة مشابهة لكن وضع اللمسات الأخيرة لم ينتهِ، فهي المرة الأولى التي يتم فيها إنتاج فيلم بلغة أفيكام التي يتحدث بها 67,483 مواطناً في تلك المضارب، وقد تمّت الترجمة من اللهجة الأفيكامية إلى اللغتين الفرنسية والإنكليزية، الأمر الذي حفّز المخرج لأن يشترك في مسابقة مهرجان "كان" في دورته الرابعة والسبعين، وقد نبّه النقاد على موهبة ماريا كوكورا التي جسّدت دور "آية" بطريقة باهرة، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من النجومية، إن هي واصلت التمثيل بأدائها السلس الذي يخلو من التصنّع والافتعال.