الغزو بين حرفين

الصفحة الاخيرة 2022/03/14
...

عبد الهادي مهودر
 

يذكر أحد الأصدقاء أن مفردة (الغزو) مرت على الرقيب في الإذاعة أيام التسعينيات حين وردت في لقاء مع أحد الفنانين الكويتيين ولم ينتبه الرقيب بأن الفنان يقصد الغزو العراقي للكويت بقوله بعد (القزو)، أما ما الذي حصل لذلك الرقيب؟ فالله أعلم ، وهي إحدى المضحكات المبكيات في الرقابة الإعلامية والغزو وعواقبه الوخيمة، ثم دارت الأيام وغُزينا في عقر ديارنا، لكن مفردة الغزو كانت رهن المواقف ووردت في الإعلام العراقي والعربي أو حجبت حسب موقف الجهة السياسية والدولة المالكة للوسيلة الإعلامية وعلاقاتها وتحالفاتها، وفي تاريخنا العربي والإسلامي كان شعر العصر الجاهلي مجنداً للفخر بالغزوات بين الأقوام داخل الأمة الواحدة، وبقيت مفردة الغزو لدى المؤرخين مرادفة للمعارك حتى لو كانت معركة الخندق الشهيرة التي كانت تسمى في مناهجنا الدراسية بغزوة الخندق على الرغم من أن المسلمين حفروا خندقاً دفاعياً حول ديارهم ليمنعوا عنهم شر الغزو والقتال، كما يسمي المؤرخون معركة بدر الكبرى بغزوة بدر لكن فيلم "الرسالة" للعبقري الراحل مصطفى العقاد أظهر لنا جيش المسلمين في حالة انتظار وعددهم يزيد عن ثلاثمائة مقاتل في مواجهة نحو ألف من مقاتلي قريش الزاحفين نحوهم بمصاحبة ثلاثمائة ناقة تحمل دنان الخمر دعماً للمعركة، واليوم تغيّرت النظرة لمفهوم الغزو لدى السياسيين والشعراء ولم يعودوا يتفاخرون به في الخطابات والقصائد، ولا تقبل الدول وصفها بالغازية وإن اعتدت وغزت، ولم يخرج مجلس الأمن الدولي بإجماع على قرار بإدانة روسيا، وفي اتصالات المسؤولين العرب والمسلمين مع القيادات الروسية يدعون لوقف الحرب في أوكرانيا وليس لوقف الغزو لكون هذا الوصف يعبر عن موقف سياسي واضح، وتنأى الدبلوماسية عن تداول مفردة الغزو في محاولات الوساطة والاتصالات المباشرة، وربما حتى قادة الدول الأوروبية يتجنبون ذكرها في المباحثات والاتصالات الهاتفية المباشرة مع الزعماء الروس مثلما يستخدمونها في تصريحاتهم العلنية أمام الرأي العام على أمل حل القضية بالطرق السلمية، ولا يطلق أي زعيم سياسي في عالمنا اليوم على حربة ونفسه صفة الغزو والغازي، لأن الغزو أصبح فعلاً مداناً  لا يتباهى به الغازي صراحةً وإنما يعتبره تحريراً وإنقاذاً ويوجد له المبررات التي لا تغير من الواقع شيئاً، فالغزو هو الغزو مهما كان وصفه من قبل الدولة الغازية، وهو الغزو بوجود الرقيب وبغيابه ومهما كانت مرادفاته في اللغات واللهجات وبحرف الغين أو القاف، وهو نفسه (القزو) الذي كسر رقَبة الرقيب.