عندما حاولت سهام بن سدرين، إلقاء خطاب في البرلمان التونسي العام الماضي، تم إسكاتها، بدأ النواب بالضرب على الطاولات الخشبية، بعضهم يصرخ، والبعض الآخر وقف ليلقي بالتهم عليها، ومع تصاعد قرع “الطبول”، اضطرت بن سدرين لمغادرة القاعة، فما كان من النواب الا التصفيق.
“نعمل وسط جو عدائي للغاية” تقول بن سدرين، رئيس هيئة الحقيقة والكرامة في تونس، التي تأسست سنة 2013، مهمتها الكشف عن عقود من الانتهاكات لحقوق الانسان تعود للعام 1955، وهو العام الاخير للحكم الفرنسي، من خلال تعاقب أنظمة حاكمة تسلطية، كالحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وانتفاضة الربيع العربي العام 2011. ومؤخرا، ألقى رئيس الوزراء التونسي “يوسف الشاهد” باللائمة على بن سدرين “لفشل العدالة الانتقالية”.
التقرير القنبلة
في هدوء مكتبها الذي مقره تونس العاصمة، تجلس بن سدرين، بعد خمس سنوات من العمل المتواصل، وقد أنهكها التعب، تتلقى اتصالات هاتفية. فبعد أن أنهت الهيئة عملها منذ كانون الأول الماضي، وهي بانتظار نشر تقريرها “القنبلة” مذاك، لكن النشر يشترط لقاء بن سدرين بالرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، أولا، ورئيس الوزراء الشاهد، ورئيس البرلمان، الا أن رفض رئيس الحكومة لتحديد موعد اللقاء، عدته بن سدرين محاولة للحيلولة دون مضي الهيئة لانهاء عملها.
وفيما يجري التغاضي عن التقرير، تواصل الهيئة عملها بتمرير القضايا الى المحاكم، والتي تنظر بها ببwwطء شديد، يخرج العديد من الضحايا الغاضبين بتظاهرات أمام مكتب الهيئة لتلبية مطالبهم. ينص القانون التونسي على أن في حال أثبتت الهيئة، تأثير للأنظمة السابقة، فعلى الحكومة التصرف حياله، لكن الهيئة، تلقي باللوم على نفسها متعذرة بالافتقار الى الاصلاحات.
على مدى أكثر من أربع سنوات، تمكنت الهيئة من تسجيل أكثر من 62 ألف حالة انتهاك، تم رصدها من خلال شبكة من المراكز وأكشاك المقابلات المتنقلة، والتي تضمنت حالات تعذيب وفساد وإخفاء قسري وموت أثناء الاحتجاز، وقد تم حتى الآن، إحالة 173 قضية الى المحاكم، وبث بعضها على شاشة التلفزيون.
يقول فداء حمّامي، من منظمة العفو الدولية في تونس بأن: “هناك خشية حقيقية من أن تكون هذه المحاكمات رمزية، فعلى سبيل المثال، كان آخر موعد لجلسة واحدة من القضايا، هو شهر كانون الثاني الماضي، وقد أجلت الى شهر نيسان المقبل، وبهذه الوتيرة، فإن كل قضية يمكن لها أن تأخذ جلستين أو ثلاث سنويا فقط، أي wwwبمعنى آخر، قد تبقى داخل أدراج المحاكم من دون حسم لخمس سنوات المقبلة”. بالنسبة للضحايا، فان هذه السنوات من الانتظار تعد قليلة مقارنة بحجم المعاناة التي عاشوا فيها بانتظار تحقيق العدالة.
سلسلة القيادة
“لا أريد للضباط من المنتظمين بالخدمة الآن، أن يعانوا ما عانيت”، يقول سالم كردون، الذي تظهر على أطرافه آثار لتعذيب تعرض له أثناء فترة احتجازه العام 1991، عندما كان واحدا من 244 شخصا تم إبعادهم عن الخدمة في الجيش، فضلا عن اعتقاله بسبب توجهاته الاسلامية، مضيفا “كانوا يتتبعوني حتى قيام الثورة، وعندما رأيت محاكمة معتقليي، تنفست الصعداء”.
كجزء من عمل الهيئة الذي يتضمن اجتثاث الفاسدين من المسؤولين، أصحاب النفوذ على الحكومة، تقول بن سدرين: “يتعلق عملنا بالانتهاكات التي ارتكبت من قبل أشخاص لا يزالون في الإدارة وحول الرئيس وداخل البرلمان وغيرها” مضيفة “هم مسؤولون عن جرائم ارتكبوها، لكنهم لا يودون الاطلاع على التقرير أو العمل بتوصياته”.
تشير بن سدرين بقولها: “نحن نعمل على تنفيذ القانون، ولا نختلق شيئا من ذهننا”. وعن اتهامات لشخصيات بارزة، تقول هذه السيدة: “عندما نتحدث عن سلسلة القيادة فالأمر لا يتعلق بالجلاد وحده، بل بمن أمر بالجلد، وقد نجحنا بالوصول الى السلسلة ككل، بمن فيها الرئيس الأسبق بن علي، ولدينا أدلة على كل تلك الجرائم”.
يوجه التقرير الاتهام الى الرئيس السبسي (92 عاما)، بالتواطئ مع جرائم ارتكبت عندما كان وزيرا خلال حقبة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ليلتحلق بعدها بوزارة الداخلية عندما انقلب زين العابدين بن علي على سلفه الرئيس، وكان عهده مشهورا بوصف التعذيب كأمر معتاد. تقول بن سدرين: “بالتأكيد هناك نوع من المسؤولية الجماعية، فالأمر يتعلق بكشف النقاب عن الحقيقة، أكثر من مجرد توجيه المساءلة، اذ نسعى لتعقب الاشخاص الذين لايزالون يمارسون انتهاك الحقوق”.
عاهرة وجاسوسة
عمل الهيئة القائم على البحث والتقصي وغالبا ما يقابل بالمعارضة، فوزارات الدفاع والداخلية والعدل، عمدت، وبشكل روتيني، على منع الولوج الى أرشيفهم، وقد فشل القضاة باصدار قرار حظر السفر لمنع المتهمين من مغادرة البلاد، فضلا عن تصدي القوات الأمنية المتنفذة لمحاكمة عناصرها بتهمة التعذيب فضلا عن التصدي لعمليات الاصلاح مع الاستمرار بارتكاب الانتهاكات.
وقد تعرضت بن سدرين، نفسها، للهجوم، من وسائل اعلام موالية للحكومة، من خلال رسومات كاريكاتيرية أظهرتها كعاهرة مرة أو جاسوسة مرة أخرى. تقول بن سدرين بأن الهجمات، الآن، تشن خوفا مما يمكن للعدالة الانتقالية أن تكشف عنه من أعماق التأريخ التونسي، وتختتم عبارتها: “لقد أنجزنا المهمة وستستمر العملية بالتعاون مع السطلة القضائية، الذين قد يتعرضون أنفسهم للهجوم كذلك”.
بعد عناء عمل امتد لخمس سنوات، كانت استراحة بن سدرين في رحلة لمدة ثلاثة أيام الى صحراء جنوب تونس، للتفكير في ما يمكنها القيام به بعد انتهاء عمل الهيئة، تقول بن سدرين وهي تزفر بعمق: “لم يكن هناك سوى النجوم والسماء والرمال”.
صحيفة الغارديان البريطانية