رؤية مستقبلية

الصفحة الاخيرة 2022/03/22
...

حسن العاني
يتوهم البعض بأن قراءة (الغد) هي نوع من السحر أو من حكايات الباراسايكولوجي، بينما الواقع هي موهبة تقوم على قدر كبير من الثقافة والوعي، ولهذا تأتي القراءات السياسية لبعض المحللين صائبة تماماً وكأن أبواب الغيب مفتوحة أمامهم، والدي رحمه الله، الذي توفي عام 2003 كان من هذا النوع، فهو زيادة على كونه أستاذاً جامعياً مرموقاً، كان مثقفاً حقيقياً، كثير القراءة، شديد الملاحظة.
في وقت مبكر على سقوط تمثال الطاغية في ساحة الفردوس كان والدي يتحدث عما ستؤول إليه الأمور في المستقبل وكأنه يقرأ في كتاب، فقد أشار على ما أذكر، إلى أن بعض التيارات والأحزاب غير المؤهلة سوف تستولي على مقاليد السلطة في أقل من سنة على حد زعمه، ولأنني لم أكتف يومها بعدم موافقته على مثل هذه التنبؤات السود، بل كنت أطرح وجهة نظري المتفائلة، وإن البلد ينتظر عصر الازدهار الديمقراطي، وليس بمقدور أحد غير الشعب العراقي المتعطش لتعويض خسائره التاريخية، أن يصل إلى الحكم، ويبني العراق الجديد، وكان يسمعني إلى آخر كلمة، ثم يقول لي (وراء الأكمة ما وراءها، وإن قدرتك على استشراف المستقبل محدودة جداً، وإذا كان صحيحاً أن القوى غير المؤهلة تفتقر إلى الأرضية، فمن الصحيح كذلك، أنها ستعمل بكل ما أوتيت من قوة على توفير هذه الأرضية، أو تصنيعها)، وحيث لم أفهم، فقد سألته (كيف)، أجابني (ستعمد إلى تفتيت الأرضية الشعبية إلى مسميات كثيرة: سنة وشيعة، مسلمون ومسيحيون، عرب وكرد.. الخ،  وهذا التفتيت هو ضمانتها الوحيدة إلى السلطة، لأنها ستطرح نفسها الممثل الشرعي للسنة هنا، وللشيعة في الطرف المقابل، ساعية إلى تأجيج أي صراع بينهما، مهما كان بسيطاً لركوب الموجة، ومن دون هذا الصراع الذي تفتعله تلك القوى في العادة، لا يمكن لها أن تقود سلطة أو شارعاً أو شعباً)، ولأنني بصدق ومن دون حياء، لم أستوعب ماذا قال، وإلى أي شيء يرمي، فقد حاولت الظهور أمامه بمظهر (الند) والعبقري والمحلل السياسي، وقلت له محاولاً التهرب من الموضوع (أنت متحامل على هذه التيارات، لكونك تنتمي إلى القوى اليسارية والتقدمية والليبرالية!)، ورمقني رحمه الله بنظرة غاضبة ورد عليّ (هذه القوى لعلمك هي سبب البلاء الذي سيشهده العراق، لأنها بخلاف مبادئها صفقت للدبابة الأميركية، وسوف من حيث تدري أو لا تدري ستسقط في براثن الطائفية وسوف تبحث عن ثمن لمواقفها النضالية، وتلهث وراء العظام التي ترميها السلطة و ..)، أف.. كلام يقبض الروح، وكنت مع نفسي أسخر من تحليلات والدي السياسية، ورؤيته القاتمة للمستقبل، لأنه بخلافي تماماً، لا يرى إلا النصف الفارغ من الكأس، كم تمنيتُ لو إن والدي ما زال على قيد الحياة، لكي أسأله: (هل ...؟!) بل الأفضل ألا أسأله، فليس هناك أكثر راحة للموتى من الموت!.