محمود عبود*
تشهد السينمات الاسبانية هذه الايام العرض التجاري الاول للفيلم الإسباني الأرجنتيني المشترك "المسابقة الرسمية"، وهو من تأليف وإخراج كل من الارجنتينيين/ "ماريانو كون" و"جاستون دوبرات" انتاج 2021، عرض الفيلم بعدة مهرجانات دولية مثل "فينسيا" و"تورنتو".كما كان الفيلم الافتتاحي لعدد من المهرجانات كان آخرها الدورة الـ 43 للقاهرة السينمائي، وقد حصل الفيلم على العديد من الجوائز.
على طريقة "شابلن" و"الريحاني" دارت أحداث الفيلم في قالب كوميدي درامي ساخر، ما جعله يلقى قبولا وإشادات واسعة من النقاد في المحافل التي عرض من خلالها. تبوح المشاهد الأولى للفيلم بمضمون قصته الأساسية التي تدور حول الملياردير الشهير "سواريز (الممثل الإسباني خوسيه لويس جوميز)، الذي يكتشف بعد تجاوزه الثمانين أنه لم يترك ما يخلد اسمه، فقرر بناء جسر يضمن له الخلود، فضلا عن إنتاج فيلم سينمائي يضمن بعرضه تكرار ذكر اسمه، لتبدأ رحلة صناعة فيلم داخل الفيلم الذي نشاهده.
فنشاهد المخرجة لولا كويفاس (بينلوبي كروز) صائدة الجوائز العالمية، وهي شخصية غريبة الأطوار، لكنها الأكثر احترافية والأنسب لتحقيق المهمة. لم تجد "لولا" معاناة في إقناع المنتج بتغيير القصة التي اختارها للفيلم بقصة أخرى ترتكز على علاقة معقدة بين أخوين متناقضين بكل شيء، يتسبب أحدهما في سجن أبيهما، ما خلق صراعا أخلاقيا قامت على أساسه دراما الفيلم.
ثم تختار "لولا" بطلين لفيلمها الاول فيليكس ريفيرو الممثل النجم المغرور الغارق في الملذات، لعب دوره الممثل الإسباني الشهير انتونيو باندراس، والثاني إيفان توريس الأكاديمي المخضرم صاحب القيم الجادة والنبيلة، جسده الممثل الأرجنتيني أوسكار مارتينيز.
وهنا تتبلور عبقرية اختيار المخرج لممثليه، ففضلا عن كون بطلي الفيلم على النقيض في السيناريو فهما كذلك في الواقع، الأمر الذي يضعنا أمام صراع واقعي مضافا للصراع الدرامي. يستغل كل من باندراس ومارتينيز هذا التناقض ليقدما لنا مباراة رائعة في فنون الأداء التمثيلي الراقي، استطاعت "كروز" أيضا أن تقف على أدق التفاصيل والصفات التى يمكن أن تؤهل مخرجا ما، لأن يكون صائدا للجوائز في عالم مهرجانات السينما، ما جعل المشاهد على يقين بأنها مخرجة فعلا وليس تمثيلا، كما أكدت ببراعة على بعد مهم في العلاقة بين المخرج وممثليه، وهو سيطرته النفسية على أدائهم وانفعالاتهم، ومن المشاهد التي أظهرت ذلك مشهد "كسارة الأجسام الصلبة"، حينما طلبت "لولا" من بطليها جلب أهم الجوائز، التي حصلا عليها خلال تاريخهما المهني، ثم وضعتها ماكنة ثرم لأجسام الصلبة أمام أعينهما، بعد أن قيدتهما معا في المقعد، حيث لم يستطع أيهما إنقاذ تاريخه، في رسالة مفادها بأن ماضيكما قد تحطم وعليكما أن تثبتا لي كفاءتكما في ما هو قادم.
لقد أتاح لنا الفيلم التعرف عن قرب على بعض تفاصيل كواليس صناعة الفيلم السينمائي، خاصة في ما يتعلق بتقنيات الصوت والمؤثرات والخدع، وهنا يتبادر للذهن مشهد "الصخرة الضخمة" المتدلية في الهواء عن طريق ونش كبير، وأجلست لولا كلاً من فيليكس وإيفان تحتها لتمثيل أحد المشاهد بهدف الوصول بهما لأقصى درجات الثبات الانفعالي في حضرة الخوف من الهلاك، بافتراض سقوط الصخرة عليهما، لكننا نكتشف كمشاهدين مع فيليكس وإيفان في نهاية المشهد، أنها كانت كتلة "فلين" وليست صخرة.
إيقاع الفيلم السريع يجعلك ملتصقا بمشاهده، فضلا عن بنائه السردي الشيق القائم على عنصر عدم توقع ما سيحدث.
طرح الفيلم العديد من القضايا الخاصة بعالم صناعة الأفلام ودهاليز مهرجاناتها السينمائية الدولية، إضافة الى عدد آخر من القضايا الاجتماعية العامة.
قد لا يهم موضوع الفيلم، سوى قطاع محدود من المشاهدين، نظرا لتسليط الضوء على كواليس صناعة الافلام، إلا أن نجومية وبراعة أبطاله الثلاثة ( كروز و باندراس و مارتينيز، وجرعة الكوميديا التي رافقت الأحداث، فضلا عن عنصر التشويق والإثارة الذي شاهدناه في الربع الأخير من الفيلم بعد واقعة سقوط إيفان من إحدى شرفات الفندق مضرجا بدمائه من دون اكتشاف أن من دفعه كان فيليكس، أو أن إيفان قد مات أصلا، أم لا؟، كل تلك الأمور هي عوامل كفيلة بأن ينال الفيلم إعجاب الجماهير.
أخيرا أن "المسابقة الرسمية" بكل المقاييس كان درسا خصوصيا لكل صناع السينماـ لا سيما في عالمنا العربي ـ علهم يشاهدونه ويتأملون وصفاته السحرية لنأي بالصناعة الأهم في حياتنا، بعيدا عن عوامل انهيارها التي باتت واضحة هذه الأيام.
*كاتب واعلامي مصري