{ذا فرانش ديسباتش} سينما مختلفة تتجاوز السائد

الصفحة الاخيرة 2022/03/23
...

 عبد الكريم قادري
يمتلك المخرج السينمائي الأميركي ويس أندرسون (مواليد 1969) بصمة خاصة تؤهله دائما لتقديم ما هو مختلف ومغاير للسائد، ومن خلال هذا الاختلاف يقدم خدمات جليلة للمشهد السينمائي الذي يتجه نحو العادي، يخاف المغامرة التي يمكن أن تحدث وسط هذا التغيير، وهذا على خلاف أندرسون الذي يعشق المغامرات ويرمي بكل ثقله فيها، لتكون النتائج دائما في صالحه، وكأنه يملك الرؤية وفي الوقت نفسه هو قارئ جيد للنتائج، التي يمكن أن تحدث.
 
يفهم جيدا العلاقة بين المتلقي والفيلم، وفي الوقت نفسه يعرف اهتمامات الجمهور والنقاد وصنّاع السينما معا، بمعنى أنه يملك عقلا سينمائيا يوجهه في أي اتجاه يشاء ولا يضيع البوصلة، وهذا ما حدث معه في الكثير من الأفلام، التي قام بتحقيقها وان كانت قليلة، وربما أكثرها اختلافا وتميزا هو فيلم "فندق بودباست الكبير"(2014) الفائز بجائزة لجنة التحكيم بمهرجان برلين السينمائي وأربعة أوسكارات، وهذا ما حدث ويحدث في معظم أفلامه، التي تشارك وتحصد أهم الجوائز من أكبر المهرجانات، مثل فيلم "جزيرة الكلاب" (2018) الحائز على جائزة الدب الفضي لأفضل مخرج في مهرجان برلين. أما أحدث أفلامه وآخرها هو فيلم "ذا فرانش ديسباتش"، الذي عرض أول مرة في مهرجان "كان" السينمائي 2021، أما عربيا فقد تمَّ عرضه في الدورة الـ 5 (14 ـ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" في قسم الاختيار الرسمي خارج المسابقة، كما عرض في القسم الموازي (سينما العالم) بأيام قرطاج السينمائية في الدورة الـ32 (30 أكتوبر/ تشرين الأول ـ 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021). 
احتفي المخرج ويس أندرسون في هذا الفيلم الذي شاركت في انتاجه كل من المملكة المتحدة/ فرنسا/ ألمانيا (107 دقائق) بالألوان والأشكال والموجودات المختلفة، وكأن المخرج يقدم تحية عابرة لماضيه حين كان في صف الأشغال اليدوية بالمدرسة، يضع امامه الورق الملون والمقص والألوان ويبدأ في تشكيل أشياء غير موجودة، ينفث فيها الحياة لتصبح نابضة بالحياة، أي أن الطفولة لم تغب عنه عندما هم في تحقيق هذا الفيلم الذي كتب له السيناريو أيضا، اذ استطاع خلق بلدة وهمية اسمها إينوي تقع في فرنسا، زرع فيها الحياة واختار لها الأسلوب الأمثل، الذي رآه مناسبا لها، عن طريق نقطة الانطلاق الرئيسية او المحور الذي ينشط هذا الأسلوب، وهي صحيفة "ذا فرانش ديسباتش" التي ستنشر آخر عدد لها وتتوقف عن الصدور بعد سنوات كثيرة من العطاء والقرب من القراء، وهذا تحقيقا لوصية صاحبها ومالكها، ليكون الفيلم عملية تجميع للقصص، التي ستنشر في هذه الصحيفة الأسبوعية. وقد جاءت حسب ما تم ذكره في مقدمة الفيلم بأنه ينقسم الى: "نعي ودليل سفر وثلاث مقالات طويلة"، من هنا تنطلق ألاعيب المخرج ويس أندرسون الجمالية، من خلال زرع السخرية والتهكم والضوء واللون والظل والبصريات المريحة والأشكال المختلفة والقصص الملهمة والطفولية، وحتى التيارات السينمائية والأدبية، وكأنّه رتّب من خلال هذا الفيلم ما كان فوضوي في عقله من احلام وكوابيس منسوجة في الماضي أو مشكل كأحلام تتجهز للمستقبل، تحس في هذا الفيلم بأنه يقدم تحايا حارة للصحفيين والأدباء والرسامين وصناع البهجة في هذا العالم في وقت ما من الماضي، فقط يتم الاحتفاء بالورق كحال صحيفة "ذا فرانش ديسباتش" والتشكيل كحال الفنان الذي اكتشف ذاته في السجن، وبالطعام كحال الشرطي الذواق، وبالصحافة كحال الصحفي صاحب الدراجة او الصحفي الذي لا يرى ويكتب من خلال عيون الآخرين، وبالعديد من المعالم التي صنعتها بلدة "إينوي سور بلاسيه" التي تقع في الضاحية الباريسية، بعماراتها القديمة وببلاطها الحجري المنضد وبأبوابها وأزقتها وشارعها 
المتفرعة. 
استطاع المخرج ويس أندرسون أن يحكم بناء فيلمه ويضبط أقسامه دون أن يقع في فخ الاستسهال الذي يتجاوز من خلاله التفاصيل الصغيرة، ولأنه مخرج يؤمن بأن تلك التفاصيل هي من تصنع الكل فقد اهتم بكل جزء فيها، لهذا نجد مثلا في اللباس الخاص بعمال السجن كلمة "حارس" وهذا ما فعله مع لباس أفراد الشرطة، فقط سقنا هذا الامر كمثال، وهناك العديد من النماذج الأخرى المهمة، وكل هذه الفروع والاجزاء هي من صنعت جمالية الفيلم الكبرى
ودفعت به نحو الصورة النهائية.
استطاع المصور روبرت يومان من خلال صوره المنوعة ذات الزوايا المتعددة والمختلفة أن يخدم عبثية الموضوع ويآزره، مظهرا تلك المسحة من الخيال التي عكسها كمنظور بصري، وهذا ما عمل عليه في المونتاج أندرو ويسبلوم، وربما كان الجهد الذي بذله كبيرا، لأنه كان بمقدوره الجمع بين الرسوم المتحركة والصور العادية وبين العديد من القصص، وفي كل هذا حافظ على الانسجام والسلاسة التي تحافظ على الخط البصري المستقيم في الفيلم. أما أكثر الأشياء التي لفتت الانتباه الى الفيلم فهي الديكور الذي قام به مجموعة من الأشخاص المحترفين بتوجيه مباشر من المخرج، لأن كل تفصيل يخدم موضوع الفيلم بطريقة أو بأخرى، كما نجد أحد الفنون حاضرا وبقوة، لكن الكثير من النقاد لم ينتبهوا له، وهو "الكولاج" الذي تناوله بعض السينمائيين في فترات زمنية ماضية، وهو وسيلة مهمة تقوم بتوليد معانٍ من خلال دمج أشياء مختلفة، وهذا ما حدث في فيلم"ذا فرانش ديسباتش" الذي تشكل ديكوره من خلال "الكولاج"، اما الشيء المهم في هذا فقد أظهر المخرج ويس أندرسون هذه المعطيات، وكأنه يوجه تحية خاصة وخالصة لصنّاع هذا الفن الذي ساهم بشكل كبير في تطور السينما عبر الزمن، ليكون فيلم "ذا فرانش ديسباتش" صيحة ضد القبح وضد الزمن المادي وضد الحداثة وضد 
كل ما يفسد فضاءات الفنون، جاء ليحتفي بالضوء واللون والحب والفن، وقد مثل فيه كل من بينشيو ديل تور، فرانسيس مكدونالد، جيفري رايت، أدريان برودي، تيلدا سويتون، أوين ويلسون، ثيموثي شالامي، والجزائرية لينا خضري.