لنتذكر حلبجة

آراء 2019/03/19
...

د. كريم شغيدل
 

في العام 2004م زرت مدينة حلبجة برفقة بعض الأصدقاء، تجولت فيها، بين بيوتها، بين قبور شهدائها، في متحف الصور والمجسدات، وما أزال أحمل ذلك الشعور الغريب برائحة الموت التي لم تغادر المدينة، حقيقة أصابني الرعب، تخيلت حينها مشهد يوم القيامة كما وصفه القرآن الكريم، التقيت ببعض الناجين من المذبحة سيئة الصيت، الهولوكست الصدامي، يومها كان قادة المسلمين مجتمعين على مقربة مما حدث، حيث انعقاد مؤتمر الدول الإسلامية في الكويت، وقد تناقلت بعض الوكالات العالمية أنباء مختلفة ومتضاربة، لكن الجميع صمتوا، أكثر من خمسة آلاف ضحية من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب وآلاف المصابين والهاربين والمشردين، هي ليست مجرد جريمة ضد الإنسانية أو جريمة إبادة أو تطهير عرقي قام بارتكابها طاغية مجنون بحق أبناء شعبه، وإنما هي كارثة بشعة لم ولن تتكرر في التاريخ.
حلبجة التي مرت قبل أيام الذكرى الأليمة لمذبحة الضربة الكيمياوية واحدة من أجمل مدن كردستان وأهمها اقتصادياً وثقافياً، فهي طريق قوافل التمور، ومدينة الشاعر الخالد عبد الله كوران، وكانت تتعايش فيها مختلف الأطياف العراقية بسلام ومحبة، وكانت للمرأة مكانة معتبرة فيها على مستوى الإدارة والمجتمع، واليوم إذ تستعيد وجودها الذي كاد أن يمحى وتتحول إلى محافظة نأمل أن تصبح مدينة عالمية أو متحفاً دولياً لجرائم الإبادة وجرائم الحرب والتطهير العرقي ومختلف الجرائم ضد الإنسانية، كي تبقى شاهداً للتاريخ وللبشرية جمعاء لإدانة نظم الاستبداد والطغيان.
جريمة حلبجة جعلت مفكراً فذاً مثل هادي العلوي رحمه الله يبرأ من عروبته، مثلما نبرأ اليوم من إسلام داعش وجرائمها في سبايكر وسنجار وبادوش وغيرها، ومثلما تبرأ الإنسانية من جرائم التطرف التي كان آخرها الهجوم الذي شنه أحد المتطرفين على مسجدين في نيوزلندا وأودى بحياة العشرات من الأبرياء، جرائم منكرة تشكل امتداداً لبعضها البعض، والعامل المشترك هو الاستبداد، فهناك استبداد سلطوي واستبداد عرقي واستبداد ديني وطائفي وعشائري ومناطقي، تتعدد أشكال الاستبداد والنتيجة واحدة هي كراهية الآخر المختلف وقتله. حلبجة ستبقى رمزاً للحياة وقد نهضت من رماد مأساتها، لكن صفحات الألم لا تطوى، ليس رغبة بجلد الذات، بل لأن المأساة أكبر من أن تنسى، وسنبقى نحيي تلك الذكرى لكي لا تتكرر ولا ندفن رؤوسنا في الرمال عن جرائم نظام البعث الصدامي الذي ما زال البعض يتباكى على أيامه ويحن لأمجاده المزيفة، فليس من البطولة أن تحاصر أناساً أبرياء عزل بغاز السيانيد المحرم دولياً، وليس من الشجاعة أن تواجه النساء والأطفال والشيوخ بسلاح فتاك لم يبقِ ولم يذر، حتى الحيوانات نفقت في الشوارع، والطيور تيبست على أغصان الأشجار، وعيون الأطفال نطت من محاجرها، وكل الحجج والذرائع لا تشفع لمرتكبي تلك الجريمة المخزية، فلنتذكر حلبجة دائماً والأنفال وسبايكر وسنجار وبادوش ونؤرخ تلك الجرائم التي راح ضحيتها آلاف الأبرياء، ولكل ضحية حكاية.