هل تحقق موازنة العراق 2019 استدامة الدين العام؟

اقتصادية 2019/03/19
...

أحمد هذال*
 
 
بعد عام (2003) تحول الاقتصاد العراقي الى اقتصاد السوق نظرياً (عملياً اقتصاد غير واضح) وأحد اهم المشاكل التي واجهها هي أزمة خانقة تتمثل بالتركة الثقيلة من حجم الدين العام (خصوصاً الخارجي البغيض)، أذ بلغ حجم الدين الخارجي نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي نحو (300 %) عام (2005) وهذا سببته حروب النظام السابق واستنزاف موارد الاقتصاد واستدانته من اجل ديمومتها.
شكل العراق لجنة لمتابعة الدين الخارجي، وبعد متابعة وجهود فنية ومؤسساتية تم التوصل الى اتفاقات مع دول نادي باريس وبعض دول خارج نادي باريس، وتم الاتفاق على حذف نسبة 
(80 %) من الدين الخارجي من اصل (130) مليار دولار والمفترض تكون اخر دفعة عام (2028)، لكن هناك بعض الدول ومنها دول الخليج ترفض عملية شطب الديون البغيضة الى الآن.
بعد تخفيض حجم الدين والمفترض ان يتم رفع معدل النمو الاقتصادي وتقليل الاستدانة، الا أنه وبسبب التفكير السياسي الريعي الذي قاد الاقتصاد ارتفع حجم هذا الدين الى اكثر من سابقه، وتشير المنظمات الدولية الى أن حجم الدين العام بلغ (160) مليار دولار، وهناك تقريباً (85) مليار دولار ينقسم مابين دين داخلي وخارجي يدخل ضمن مفهوم الديون البغيضة، وبالرغم من ان هذا الرقم مبالغ فيه لكن يجب ألا يتم تغافله، لأن هذه المنظمات لديها تعاملات مصرفية ومالية مع الجانب العراقي، وعليه يجب متابعتها وتوحيد حجم الدين المثبت لدى وزارة المالية.
ان أجمالي الدين العام الحالي وبشكل رسمي من الجانب العراقي لغاية عام (2019) وصل الى (121.5) مليار دولار بلغ الدين الخارجي منه نحو (73) مليار دولار، فيما بلغ اجمالي الدين الداخلي منه نحو (48.5) مليار دولار، ولعل أحد المؤشرات المهمة الذي يستند عليه تحليل استدامة الدين العام هو نسبته الى (GDP)، وبالتالي ستبلغ هذه النسبة من الناتج المحلي الاجمالي اكثر من (64 %) وهذا يعني انه تخطى مرحلة الامان ودخلنا بمرحلة عدم الاستدامة، وتحليل استدامة الدين العام (DSA) نعني به قدرة الحكومة على الوفاء بدينها على نحو يسير ولا يؤثر على سيولتها المالية، وكذلك عدم الاضرار بالاجيال المستقبلية من خلال الاستدانة لسد احتياجات الجيل الحالي، او هو ممر زمني لنسبة الدين الى الناتج يتجه الى الاستقرار، أذ هو تحليل يستند على مؤشرات طويلة الامد مثل تحليل سيناريوهات الدين العام والتحليل القياسي، فضلاً عن التحليل قصير الامد ومنه خدمة الدين الى الاحتياطيات وخدمة الدين الى الايرادات... وعلى هذا النحو سيدخل الاقتصاد العراقي ضمن السياسات المتشددة والمعتمدة على (PV) القيمة الحالية للدين العام، لأن هذه السياسات وحسب دراسة أكاديمية اجريت على الاقتصاد العراقي بينت أنه يجب ان لا تتخطى القيمة الحالية للدين العام/GDP عن (50 %) وهذه النسبة تنسجم مع واقع الاقتصاد الريعي، بينما نلاحظ أن هذه النسبة تخطت حاجز الـ(60 %) وهي خطرة حسب المعايير الدولية ومنها معيار او اتفاقية (ماستريخت) في الاتحات الاوربي، فضلاً عن القيمة الحالية لخدمة الدين كنسبة من النفقات العامة والايرادات العامة لا تقل خطورة، اذ بلغت نسبته من الانفاق اكثر من (8 %) فيما بلغت نسبة خدمة الدين الى الايرادات العامة اكثر من (10 %) ولو لاحظنا نسبته الى الايرادات غير النفطية لوجدنا حجم الخطر المحدق اذا ما انخفضت اسعار النفط، اذ تبلغ هذه النسبة أكثر من (90 %). 
ان نسبة (64 %) هي نسبة كبيرة جداً ولا يستطيع الاقتصاد العراقي تحملها في حال حدوث الصدمات النفطية، لأنه لغاية الان لم يستطيع ان ينمي الدخل عبر استثمار بقية الثروات، وتصل نسبة الايرادات النفطية في موازنة (2019) الى اكثر من (88 %)، وعبء الدين نحو اكثر من (10) ترليون دينار، وحجم القروض فيها يقترب من (27) ترليون دينار بالاستناد الى عجز الموازنة اذا لم تسد الزيادة في اسعار النفط هذا العجز، والمفارقة ان حجم الاستثمار الممول من القرض الاجنبية لم يبلغ سوى (6) ترليونات دينار.
لا نعرف ما هي توجهات السياسة الاقتصادية في العراق، اين هو التطبيق الفعلي للخطط الاقتصادية؟ لماذا الى الان نتوجه الى الحلول السهلة والسريعة وهي بنفس الوقت خطرة جداً على المجتمع وعلى الاجيال المستقبلية، لماذا الى الان لم نضع حداً امام صناع القرار في تحديد نسبة معينة من حجم الدين العام في الدستور او في قوانين الموازنة العامة؟ لماذا نترك القرار لوزارة المالية بالسماح في الاقتراض كما تبينه قوانين الموازنة التي تكاد تكون مستنسخة كل سنة مالية جديدة! نحتاج جهود عظيمة في وضع حد او سقف للدين العام لكي لا يكون اداة قاتلة وتمتص قوت عيش المواطن، لأنه كما تبينه الادبيات: الجزء المقتطع من الناتج المحلي الاجمالي. وهو بمثابة الجزء الذي سيقتطع من لقمة اجيالنا القادمة.
حل مشاكل الموازنة وعجزها ليس فقط من خلال التوجه نحو ادارة الدين العام، فالضرورة ملحة اليوم لأنتهاز فرص ارتفاع اسعار النفط وانشاء صناديق استثمارية لدعم الموازنة عند حدوث العجز، وتحويل عمل القطاع الخاص من تجاري الى صناعي حقيقي ينتج ما يحتاجه الاقتصاد العراقي، فضلاً عن الاهتمام بالحدود المالية وهي اقصى دين ممكن ان يتحمله الاقتصاد العراقي وذلك بربط عملية ادارة الدين العام بتحليل الاقتصاد الكلي وتطوير الاسواق المالية ورفع كفاءة ادارة الدين العام في وزارة المالية وهذه الاجراءات اكثر فاعلية من اعادة هيكلة الدين العام اذا ما تطلب ذلك الذي له تبعات سيئة على الاوراق المالية والسندات السيادية في الاسواق الدولية.
 
*باحث اقتصادي