إهانة الأُستاذيَّة.. السياسات الصريحَة والضمنيَّة

آراء 2022/04/23
...

 لؤي خزعل جبر
 
 (المُعلِّم/ المُدرِّس/ الأستاذ) قيمة كُبرى، هذا ما سمعناه ونسمعه ونردِّده، وهو – بذاتِهِ – حقيقة، لكنه في الواقِع كذبَة كبيرة. فالأُستاذ هو أحد البُناة الكبار لذهنيَّة وشخصيَّة الطالِب، تلك الذهنيَّة والشخصيَّة التي – يُفترض – أن تبني المجتمع بصورة سليمة، في مختلف مجالاته. وقد بُنيَت الحضارة الحديثة – بشكل صريح وضمني – في الجامعات، وتتمايز المجتمعات بجامعاتها، وتلك الجامعات ما هي إلّا أساتذتها. ولكن في الواقع، في مجتمعاتنا، في اللحظة الراهنة، أصبح الأستاذ القيمة الصغرى، فهو ذلك الإنسان الهامشي، غير المؤثر، غير المُقدَّر، أضعَف الحلقات في داخل مؤسسته وخارجها، وذلك لأسباب معقدة كثيرة متفاعلة، يمكن أن تُختَزَل – إجمالاً – بكسر السلطات الرسميَّة وغير الرسميَّة لوظيفته ومكانته. وهذه قضيَّة مترعة بالإشكاليَّات، وبحاجة لنقاش – علمي وليس إعلاميا – واسِع جداً. 
هذه المقالة تنطلق من فرضية رئيسة تتمثل بـ: «إهانة الأستاذ ليست ممارسة ارتجاليَّة عفويَّة، تحصل في مواقف هنا وهناك، بلا رابط، وإنما سياسة منظّمَة ممنهجة دقيقة، لا بمعنى الرؤية المؤامراتيَّة، وإن لم تكن بعيدة، وإنما برؤية سايكوسوسيولوجيَّة، ترى أن الفعل الجمعي تحكمه قوانين داخلية، قد لا تكون ظاهرة، تربط مفرداته المتناثرة، عبر قوى وثقافات وسياقات وممارسات عميقة». وقبل التفسير يجب التوصيف، فالفهم العلمي لأي ظاهرة – في كل المجالات – يستدعي أن نحدد معالِم تلك الظاهرة، وامتلاك صورة دقيقة عن أبعاد وتجليات وحدود وتصنيفات تلك الظاهرة، قبل التوغل في البحث عن أسباب الظاهرة، ودينامياتها الداخليَّة والخارجيَّة، ولذلك سنكرّس هذه المقالة لتوصيف تلك السياسة.
يمكن تحديد بُعدين للإهانة، الأول يتعلق بالمصدر، والثاني يتعلق بالكيفيَّة، فمن حيث المصدر هناك الإهانات الخارجيَّة: الموجَّهَة من المؤسسات والقوانين والتعليمات، والداخليَّة: الموجَّهَة من الأساتذة أنفسهم لأنفسِهِم، ومن حيث الكيفيَّة هناك الإهانات الصريحة: الواضحة المُباشرة المُعلَنَة، والضمنيَّة: الدقيقة التحتيَّة غير المُباشرة المُضمَرَة.
 الإهانات الخارجيَّة الصريحة: قبل أيام – وما استثار كتابة هذه المقالَة – تعرَّض الأساتذة الذين خرجوا بتظاهرة مطلبيَّة إلى التطويق والتضييق والضرب من قوات «الشغب»، في إهانَة سافرَة، كما يتعرّضون – منذ زمن الشموليَّة حتى هذه اللحظة – إلى القمع، إذ لا يستطيع الأُستاذ التعبير عن رأيه بحريَّة حقيقيَّة، أمام أقبية التعذيب وأحكام الإعدام والكواتِم والدرَّاجات والقداسات وقوانين السجن والفصل، كما أنَّهُ في مؤسسته مُعرَّض للفرض التعسّفي للواجبات، والحرمان من عشرات الحقوق، من قبيل الأمكنة الملائمة والمتطلبات الضرورية للبحث والتدريس، والكثير من الاستحقاقات الماليَّة.   الإهانات الخارجيَّة الضمنيَّة: بالعودة إلى الحدث نفسه، نجد أن مجرد مواجهة الأستاذ بقوات الشغب يتضمن إهانة كامنة، كما أن سكوت السلطة، بما فيها مؤسسته، عن ذلك إهانة ضمنيَّة. كما دأبت السلطات على تكريس صورة سلبيَّة عن الأستاذ في الخطابات والذهنيات الشعبيَّة، وإن كان بعض ما يقال له منشأ انتزاع – كما يقول الأصوليون –، فإنَّ ذلك لا يمثل الحقيقة الكاملة. ودعم السياقات التجهيليَّة إهانة ضمنية أخرى، حيث ابتذال الشهادات، بلا ضوابط ومعايير حقيقية، وإنّما بتأسيسات عجيبة، من قبيل القنوات المتعددة ومعادلة الشهادات، وكذلك تفريغ الدرس الأكاديمي من قيمته الحقيقية، عبر ثقافة النجاح المجاني، بتشريعات الدور الثالث وعودة المرقنة قيودهم والدرجات المُضافة والتوجيهات التساهليَّة وتقديم الطلبة على أساتذتهم، والمحاسبة على الصرامة والمهنية. وسيادة الثقافة الشعبويَّة في المؤسسات الأكاديمية ما هي إلّا انتكاسة أخرى لقيمة الأستاذ، حيث تحويل الجامعات إلى صدى للشارِع وتدخلات القوى الخارجية. كل ذلك مع عدم توفير الحماية للأستاذ، فالأستاذ لا ظهر له، لا في مؤسسته ولا خارجها، وتركه بلا حماية قانونية واعتبارية أعمَق أشكال إهانته، إذ تضطره للسكوت خوف المحاسبة الجائرة التي قد تفقده وسيلة معيشته، وربما حياته. 
 الإهانات الداخليَّة الصريحة: قد يهين الأستاذ نفسه، بقيامه بسلوكيات سلبية، غير أخلاقيَّة، شخصية أو مالية علمية، وهي مؤثرة في تشويه قيمته، وإعطاء مبررات واقعية لمن يسعى لذلك. وكذلك بعدم الالتزام المهني، فالأستاذ الذي لا ينجز تدريسه بصورة صحيحة، ولا ينتظم في دوامه، ولا يسهم في مؤسسته، ينتقص من مكانته. ومن الإنصاف والموضوعية أن نقول إن هذه الإهانات لا تشكل ظاهرة، ولكنها موجودة، وهي في غاية الخطورة لا بقيمتها العددية وإنما الدلالية.  
 الإهانات الداخليَّة الضمنيَّة: أخطر أنماط الإهانات، إذ نجد فقدان الوظيفة المعرفية والتنويرية والنقدية، إذ يتخلى عن وظيفته المعرفية، ويعطي لطلبته وريقات بائسة من مصادر مشكوكة، ولا يسهِم في تحديهم وتطويرهم المعرفي، ويكتب ببحوثه بتقليدية اجترارية بائسة، وهو قبل ذلك كله لا يجيد اختصاصه بصورة عميقة، وكذلك يتخلى عن وظيفته التنويرية عبر الكف عن التبشير بقيم الحق والجمال والخير، والنكوص إلى القيم الرجعيَّة، والانشغال بهمومه ومصالحه الخاصة بدل الهموم الاجتماعية والإنسانية، وفي النهاية يتخلى عن وظيفته النقدية، ولا يواجه الخطابات السلطوية والشعبوية التدميرية، ولا يهتم بتعرية تلك الخطابات، ولا يمتلك الشجاعة لذلك. وفي داخل مؤسسته بالتحديد، فقدانه لهذه الوظائِف يتيح المجال للطارئين التدميرين بممارسة ما يريدونه بحرية كاملة. وكذلك نجد الاستسلامية الإدارية، فقبول الأستاذ بدور الموظَّف الاعتيادي، وتنفيذه لكل التعليمات، بصرف النظر عن مدى قانونيتها وعقلانيتها، وسكوته عن الممارسات المهينة، هذا بحد ذاته إهانة لنفسه ومكانته.
هل هذه الإهانات الأربع، وتجلياتها وتفصيلاتها الداخلية أحداث متناثرة منفصلة، لا يحكمها منطق داخلي رابط؟ كلا، بل هناك منطق عميق، وديناميات تحتية، ما هذه الجزئيات إلّا تمظهرات لها، كما أنَّ بين هذه الإهانات تفاعلات جدلية دقيقة، فالإهانات الخارجية تؤدي إلى داخلية، والداخلية تزيد الخارجية، وهكذا في دائرة تصاعدية مميتة، ستصل – وربما وصلت – إلى قتل الجامعة العراقية. فمن يود الاحتجاج على الإهانة، لا بدَّ أن يدرك كل هذه الإهانات، ويحتج على كل هذه الإهانات. ولا بدَّ أن تدرك السلطات الرسميَّة – ووزارة التعليم العالي في المقدمة – أنَّ إهانة الأستاذ الجامعي – بأي شكل من الأشكال – إنما هو إهانة للجوهر الحقيقي للمجتمع والدولَة، وإنها بسكوتها المُخزي عن ذلك إنما تهين ذاتها، وتكشف عن أنها لا تمثل مصلحة المجتمع وحقيقة الدولة.