مواجهة ثقافة الإحباط

آراء 2022/04/23
...

  عطية مسوح
ينشأ شبابنا في المرحلة الراهنة في ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية غير مؤهلة لتكوينهم شباباً إيجابيين فاعلين. وحين نحتك بالشباب ونسمع كلامهم المفصح عن أفكارهم نجد أن ضعف الأمل بالمستقبل هو السمة المشتركة لمعظمهم. الشباب هو مرحلة الأمل والحلم، والشاب الطبيعيّ هو من يطمح إلى مستقبل جيد له شخصياً ولمجتمعه أيضاً، ويبذل جهده للتغلب على ما يواجهه من عقبات في طريق تحقيق طموحه، منطلقاً من أن هذه العقبات يمكن تخطيها، وأ في المجتمع عوامل مساعدة على هذا التخطي لا عوامل معوقة فقط. 
 
لكنّ الواقع في مجتمعاتنا العربيّة يقتل أمل الشابّ بمستقبل مقبول، ويملأ نفسه باليأس، فلا عوامل مساعدة، ولا حاضنة للأحلام على المستوى الفرديّ والوطنيّ. لذلك تتحوّل المعوّقات التي كانت تشحذ الهمم وتغذّي الإرادة إلى محبِطات، يراها الشابّ قدراً لا خلاص منه. وأشد نتائج هذا الإحباط إيلاماً وضرراً هو النزوع إلى الهجرة. لقد وصل ضعف أمل الشباب بالمستقبل وانعدام ثقتهم بالقوى الحاكمة في البلدان العربيّة إلى درجة جعلت قسماً غير قليل منهم يضعون الهجرة نصب أعينهم، أي إنّ اليأس من تجاوز واقع الوطن المرير أوصل الشباب إلى الحلم بوطن بديل.  وبين الواقع الرديء ويأس الشباب علاقة متبادلة، فكلّ منهما يزيد الآخر تفاقماً. ونذكر – على سبيل المثال – تراجع قيمة العلم والثقافة في مجتمعاتنا العربيّة، فالشاب الذي يرى بأمّ عينه بؤس حامل الشهادة الجامعيّة، وعجزَ المثقّف عن تأمين حاجاته الحياتيّة الضروريّة، مقابل ما يدرّه الاقتصاد الطفيليّ والعمل الفاسد على أصحابهما، سينفر من العلم والثقافة، وهذا النفور سيعزّز الانحدار العلميّ والثقافيّ، وهكذا تتضافر الأسباب والنتائج في علاقة تبادليّة لتعميق التخلّف وترسيخ الجهل، وللجهل أيضاً ثقافته التي تغذّيه وتزيده انتشاراً.
إن وصول شبابنا إلى حالة اليأس واقتراب أحلامهم من حافّة الموت، وانكفاء الكثير منهم عن الاهتمام بالشأن العامّ، وانشغالهم الكامل بالبحث عن تدبير أمور الحياة اليوميّة بحدودها الدنيا، ونزوع قسم كبير من المتعلّمين والمتخصّصين إلى الهجرة، أدّت كلّها إلى ضعف الحركات التغييريّة في المجتمع، وهذا الضعف يزيد الواقع سوءاً، ويوسّع دائرة الفساد المتنوّع الأشكال، ويعمّق هوّة التخلّف التي نستقرّ في قاعها منذ عقود. 
ولعلّ أسوأ ما يؤلم الشباب ويدفع بهم إلى مستنقع الإحباط، هو ما يرونه من استهتار القوى الحاكمة في البلدان العربيّة بمصالح الشعب والوطن، وانصراف المتنفّذين إلى خدمة مصالحهم الخاصّة، غير آبهين بما يقوله الناس عنهم وعن ثرائهم غير المشروع. 
في البلدان العربيّة من الطاقات البشريّة والنخب ذات الكفاءة العلميّة، ومن الثروات والموارد، ما يجعل كلّاً منها قادراً على النهوض والتقدّم. وما أَوْهَى حجّة القائلين إنّ القوى المعادية والاستعماريّة هي التي تحول دون نهوضنا وتقدّمنا!. لقد انطلت هذه الحجّة الواهية على الكثيرين، لكنّ هدف مَن اخترعوها ويردّدونها هو طمس الأسباب المحلّية الذاتيّة للعجز الذي نحن فيه. لقد انضمّت هذه الحجّة إلى منظومة الفكر التقليديّ الماضويّ الذي يكبّل عقولنا، ويدفع الكثيرين منّا، وبعضهم مخلصون وصادقو النيّة، إلى البحث في الغابر عن حلول لمشكلات الحاضر، واستلهام الماضي للبناء على صورته، وهذا ما لا يمكن تحقيقه، ولن يقود إلّا إلى مزيد من التأخّر وإضاعة الزمن.
تسعى القوى الاستعماريّة إلى تكريس ما نحن فيه من تخلّف، لكنّ العوامل الحاسمة في نجاحها هي عللنا الذاتيّة. 
هل ستبقى هذه الأحوال زمناً طويلاً؟ وهل انقضى الأمل في استيقاظ الشباب ونهوض إرادتهم وانغماسهم من جديد في الحراك السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ التغييريّ؟ تاريخ الشعوب، ومنها شعوبنا العربيّة، يجيب بالنفي عن هذا السؤال، ويقول إنّ الواقع الرديء قد يطول ولكنّه ليس أبديّاً، وإنّ الأجيال الآتية ستنفض غبار اليأس وتمزّق جلابيب الانكفاء والركود، فتدبّ الحياة في أوصال المجتمع، وتنفتح أبواب الخروج من النفق المظلم. وما تحرّكات الشباب التي شهدتها وتشهدها الساحات العربيّة بين الحين والآخر إلاّ إرهاصات مبشّرة باحتمالات إيجابيّة ليست 
بعيدة.
لكنّ هذا النهوض لن يأتي عفويّاً، بل يصنعه الناس بالوعي والإرادة والعمل. وجوهر الوعي الذي نقصده هو العودة إلى العقل والثقافة العقلانيّة، ودراسة الواقع بأدوات معرفيّة عصريّة، لنحدّد أهم مشكلاتنا، ونعرف الأسباب العميقة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. ومن المؤكّد أنّ الباحثين الذين سيدرسون الواقع سيستفيدون من تجارب شعبهم والشعوب الأخرى، ولا سيّما الشعوب التي نهضت وتقدّمت. 
وتستوجب دراسة الواقع ومشكلاته دراسة علميّة عقلانيّة إبعادَ كلّ لُجُمِ العقل ومعوّقاته الفكريّة والآيديولوجيّة، ومنها المفاهيم والتصوّرات الموروثة التي لا تتفّق مع التفكير العلميّ والمناهج العقليّة.
ولا يجوز استسهال هذه المهمّة، فلو كانت سهلة لأنجزناها وأنجزتها الشعوب التي تقترب أوضاعها من أوضاعنا منذ زمن. إنّها مهمّة شديدة الصعوبة، يقف دونها عاملان كبيرا القوّة والتأثير، أوّلهما نفوذ القوى ذات المصلحة في المحافظة على الواقع الفاسد والمتخلّف. وثانيهما تدنّي المستوى المعرفيّ والثقافيّ في أوساط شعبيّة واسعة، وهذا ما يجعلها تسير خلف من لا يحملون هموم الشعب والوطن. ومواجهة هذين العاملين مهمّة نضاليّة صعبة، ولكن متى كانت مهمات المناضلين سهلة؟ 
 
 كاتب وباحث من سورية