حجاب الذكورة وثقافة الرأس المستور

آراء 2022/04/25
...

  حميد المختار
 
هل يمكننا تناول قضية الحجاب بعيداً عن المناخات المستبدة والمصادر والكتب الفقهية؟.
أعتقد يمكننا ذلك إذا خرجنا من إطارها الإسلاموي وناقشناها بعمومية، فضلاً عن تناولنا لمصادرها الانثروبولوجية التي تُلقي الضوء على الثقافات بطرق شاملة، والزي هو واحد من هذه الإكسسوارات المجتمعية في ثقافات الشعوب، والحجاب هو نوع من اللباس الذي يغطي الرأس والوجه، وقد وصل منذ زمن بعيد إلى رأس الرجل وامتد إلى تغطية وجهه في بعض الأحيان.
والحجاب المتعارف عليه الآن كان قد خرج إلينا في نهاية سبعينيات القرن المنصرم مع ظهور الإسلام السياسي الذي أخرج معه مسمّيات الحجاب وتنوّعه مثل (التحنّك والنّقاب والبوشي) وربّما البُرقُع أيضاً وإنْ كان قديماً والجبة كذلك، وهي مسمّيات لم تكن موجودة ولا مستعملة طيلة الفترات الإسلامية الأولى.
كان أهلنا في خمسينيات القرن الماضي وما بعدها حتى نهاية السبعينيات ملتزمين وخصوصاً النساء بما تسمى (الفوطة أو الشيلة) والعباءة كذلك، والرجال بالكوفية (الشطفة) والعقال والعرقجين، ونساء الجنوب العراقي بَقيْن محافظات على هذا الزي حتى مع نُزوحهن إلى العاصمة المتمدّنة حيث تسودها ظاهرة النساء السّافرات اللواتي يَظهرْن بلا أَغطية للرأس.
وما يهمّني في هذه المقالة أنْ أُلقي الضوء على حجاب الرِّجال مبتدئاً من جنوبنا العراقي حيث لا يُسمح للرجال أنْ يَظهروا حاسري الرؤوس، إذ لا بُدّ من لبس الكوفية والعقال، والصبي إذا بلغ الحُلُم وشبَّ عن الطوق يُجْبَر على ارتداء ما يُغطي رأسه ليصبح رجلاً كاملاً، لكن هناك شرائح من هذا المجتمع لا يحق لها أنْ تضع شيئاً على رأسِها مثل الأشخاص سُمُر البشرة (العبيد) الذين يعملون عند شيوخ الإقطاع، فهم ليسوا أحراراً ولا سادة لذا لا يحق لهم أنْ يغطّوا رؤوسهم، وهذه النظرة متأتّية من العهود السومرية القديمة التي تمنع العبيد والإماء والعاهرات من ارتداء ما يُغطي الرؤوس والتشبه بالأحرار، وإذا أُكتُشِفت الأَمَة أو العبد أو العاهرة وهي تضع ما يستر رأسها ستتعرض لعقاب صارم، ثم تنوعت أغطية الرؤوس منذ الجراوية السومرية وشماغ الملك العراقي كوديا وقلنسوة جلجامش وصولاً إلى العمامة العباسية والطّربوش التركي والسِّدارَة الفيصلية والكشيدة الخاصة بالتجار والوجهاء وعمامة العجائز العمارتليات، وإنْ حدث وظهر الرجل حاسر الرأس فهذا يعني أنّ ثَمة مُصيبة وحَدَثاً جَللاً قد أصابه وكذلك المرأة، وأتذكر أمّي رحمها الله حين كانت تُريد أنْ يكون دُعاؤها حارّاً خارجاً من عُمق قلبها إلى عمق السّماء تَقوم بِكشفِ رأسها متّجهة إلى فتحة التنور لتَمدّ رأسها في عمقه داعية الله أنْ يحقق لها أمنيتها ويستجيب دعاءها، والتنّور في عُرفنا القديم هو الرمز القرآني ذاته الذي كان إيذاناً ببدء الطوفان في عهد نوح عليه السلام حين فار التنور، وأمي هنا تريد أنْ يَفور التنور فورته القديمة ليتحقق الدعاء ويبدأ الطوفان الإلهي الذي سيُطفئ نيران قلبِها كما أَطفأ نيران الفساد والخَلْق القديم.
ثمة شعوبٌ كثيرة حَجّبَت رجالها كالطّوارِق والبَرْبر ورجال الجزيرة العربية، وتقول بعض المصادر أنّ النبي (ص) كان يُحَجّب نفسه في مناسبات معينة، بل وحتى في الجاهلية كان الحجاب الذكوري موجوداً، ويَذْكُر كلّ ذلك كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني الذي يؤكد على تَحَجّب الرّجال، ويأتي مَعنى حِجاب الذّكر بعيداً عن الأسباب الدينية فهناك دوافع مجتمعية له وعُرفية ومحاذير من الطبيعة الصحراوية والحسد والبغضاء، وفي الحروب والاستعراضات العسكرية وفي الأسواق العامة أيضاً يتوجّب على الرجال ارتداء الحجاب واللّثام، وكذلك فعل بعض الشعراء كالشّاعر (المنخّل) الذي يضع على وجهه قماشاً منخّلاً وقاية من شرور العين والحسد، بل حتى الكعبة محجّبة بأستارها السوداء وكسوتِها التي بَدأت منذ العهد الإسلامي الأول، وبعضُ المصادر تَذْكُر أنّها تَحَجّبَت منذ سنوات زمن الجاهلية، وهذا دليل على أنّ الحجاب ليس رمزاً إسلاميا سواء للمرأة أو للرجل أو للبيوت المقدسة، وباعتقادي حتى في أوروبا وأميركا وآسيا وباقي بُلدان العالم نجد أنّ حجاب الذكورة موجوداً وإنْ ظهر بأشكال أُخرى في العصور القديمة والقرون الوسطى، كلها تؤكد على غطاء الرأس، فقد استعمله الكهنة في المعابد وعند الفراعنة وكذلك في الحضارات الهندية وعند اليونان والرومان والإغريق، كل هذه الحضارات اِستَخدمت غطاء الرأس الذكوري كالقبّعات وغيرها، ثم تطورت مع مرور الوقت لتصبح القبعات بمواصفات الأزياء العالمية الحديثة للرجال والنساء.. وفي الختام لا بدَّ أنْ أُؤَكّد على رمزية الحجاب لدى الجنسين.