نسيب شمس
تشهد الأمبراطورية الأميركية الآن تراجعاً نتيجة ضغوط داخلية وخارجية. ولا بد من الاعتراف بالدور الذي أدته معاداة الإمبريالية في الولايات المتحدة منذ تشكيل الجمهوري، يقدم هذا التقليد المناوئ للإمبريالية، والذي يعود إلى 250 عاماً خلت، مَعيناً لا يزال المعارضون الحديثون للإمبراطورية الأميركية ينهلون منه بوتيرة متزايدة.
سعى الموطنون الأميركيون لتفادي وضع تعاود الجمهورية من خلاله إعادة إنتاج الملامح نفسها، التي كانت قادت بريطانيا العظمى إلى معاملة مستعمراتها السابقة معاملة يُفترض أنها استبدادية. وكان بعضهم قد رأى في الدستور الأميركي، الذي أعتُمد في عام 1787، ميلاً خطيراً نحو إمبراطورية مستبدة.
بعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت معارضة سياسة التوسّع أقل أهمية؛ ذلك أن المشروع الإمبراطوري ما عاد يتعلق بالحصول على الأراضي، وخلال ذلك، الوقت أخذت معاداة الإمبريالية ترتبط بالانعزالية، والتي هي الأخرى، شأنها وشأن معارضة سياسة التوسع – تدين بوجودها لتقليد طويل الأمد في التاريخ الأميركي. وبالفعل، ويمكن الاستدلال على ذلك من خطاب الوداع الذي ألقاه الرئيس جورج واشنطن في عام 1796، وإلى الإعلانات اللاحقة لكثير من الآباء الاميركيين المؤسسين.
لم يكن جميع الانعزاليين معارضين للإمبريالية؛ إذ كان يمكن بسهولة استخدام سياستهم كغطاء للأحادية. ولم يكن جميع الانعزاليين منسجمين.
تواصل التقليد الاميركي بحيث أن الانعزالية الجديدة لا تزال حتى اليوم خطاً مهماً في السياسة الأميركية. حيث إنه في المراحل التمهيدية الأولى للانتخابات الرئاسية، من النادر جداً ألاّ تجد مرشحاً يمثل الانعزاليين الجدد والمعارضين للإمبريالية.
مؤخرا، حظيت القوات المسلحة في الولايات المتحدة بقدر من الاحترام. غير أن المظاهر يمكن تكون خادعة، حيث إن معاداة النزاعة العسكرية لها تاريخ طويل في أميركا يتواتر حتى الزمن الحاضر. حتى حرب الاستقلال الاميركي كان كثير من المواطنين يخشون تداعيات وجود جيش كبير، كما أن الدستور الفيدرالي حاول أن يضع قيوداً صارمة لكبح جماح الطموحات العسكرية للجمهورية. أزالت السلطة التنفيذية هذه القيود شيئاً فشيئاً. أي أن التقليد المناوئ للنزعة العسكرية حفظ على وجوده ضمن أعضاء الكونغرس والكنائس والمجتمع المدني.
إن مقاومة التجنيد كانت دوماً فعلاً قوياً بلغ ذروته خلال حرب فيتنام، حيث استشرست معاداة النزعة العسكرية، التي تم تنظر لها بعد حرب فيتنام بأنها تهديد خطير للإمبراطورية شبه العالمية، وبُذلت جهود إلى أبعد حد لتجاوزها، فتكللت المساعي بنجاح كبير، وكادت معاداة النزعة العسكرية أن تتلاشى عقب 11 أيلول/ سبتمبر 2001، ولكن سرعان ما أُحيي ذلك التقليد.
إن أصحاب النزعة المعادية للتوسع، أي الانعزاليين والمعاديين للنزعة العسكرية، لا يرفضون بالضرورة "الاستثناء" الأميركي أي العقيدة التي تقوم عليها الإمبراطورية الإميركية في نهاية المطاف. الجدير بالذكر أن أغلبهم لا يجد تناقضاً بين آرائه الشخصية وقبول الاستثناء الأميركي، ويعني موقف المعادين للإمبراطورية مثيرة للريبة بشكل دائم، طالما أنهم لم يتخلوا عن جوهر العقيدة الإمبراطورية.
نشهد في الحاضر أن انكفاء الإمبراطورية الأميركية سببه إلى حد كبير قوى داخلية، وذلك بفعل القوى التي تمثل النزعة المعارضة للإمبريالية التي أدت دوراً كبيراً في هذا التحول، كما أن أهميتها تنمو وتتزايد. غير أن التقليدي الإمبراطوري والنظام الإيماني لا يزالان قويين، ما يدفع الى الافتراض قيام صراعات أساسية خلال العقد التالي بين هاتين القوتين المتعارضتين.
وقد يؤدي تضافر الضغوط الداخلية بقوى خارجية على نحو متصاعد، ما سيجعل الإمبراطورية الأميركية تواصل الانكفاء لا محالة.