ياسين العطواني
تمثل التحولات التاريخية ذات الانعطافات الحادة تحديا كبيرا للشعوب والأمم، التي تمر بمثل هذه التحولات، وعادة ما يرافق ذلك بروز الكثير من الأزمات والاستحقاقات التاريخية، بعضها ناتج من صيرورة هذا التحول، والبعض الآخر مؤجل من فترات تاريخية سابقة، حان وقت التعامل معها بعد رفع الموانع التي كانت تحول دون ذلك .
ولا شك أن هذا الأمر ينطبق تماما على العراق كبلد واجه جملة من التحديات الكبيرة والكثيرة، وهي من السعة بحيث لا يمكن لأي طرف او جهة سياسية محددة مهما امتلكت من امكانيات وقدرة أن تقوم بالمهمة وحدها، لا سيما وسط هذه الدوامة التي لا يراد لها أن تنتهي بيسر ودون تضحيات جسيمة، لذا تقتضي الحاجة والضرورة الوطنية من أبناء هذا البلد الى البحث عن مفاهيم ورؤى جديدة ومبتكرة للخروج من هذا المأزق، وأعتقد ان العلاج الناجع يكمن في ظهور البديل الديمقراطي السلمي المتمثل بالكتلة التاريخية. وقبل الاستغراق في هذا الطرح لا بدّ من التعريج على مفهوم الكتلة التاريخية وماذا تعني، وما هو الدور التاريخي الذي يجب أن تطلع به في ظل الأزمات التي تواجه أية أمة من الأمم؟.
ان المفهوم في سياقه الأصلي أرتبط بالمفكر الأيطالي أنطونيو غرامشي والذي كان يفكر في طريقة للتغيير الشعبي تتناسب مع المجتمع الأيطالي، ومن أجل مواجهة التحديات التي واجهها البلد في مطلع القرن الماضي. وبهذا المعنى تعني الكتلة التاريخية في ما تعنيه، مجموع النخب الجديدة، التي تضم مختلف التوجهات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والفكرية، والتي تأخذ على عاتقها تبني المشروع الوطني في بناء الدولة الديمقراطية الحديثة. وبالتالي فهي حاجة ستراتيجية، وضرورة بقاء لكل أمة ودولة في مراحل التحول والإصلاح، وهي أشبه ما يكون بالتوافق الوطني حول القيم والمصالح الوطنية العليا، وليس مجرد جبهة بين أحزاب وتكتلات سياسية محددة، بل هي كتلة مكونة من القوى التي لها فعل وتأثير في المجتمع، ولها القدرة على العمل والممارسة.
وأهم ما يميز الكتلة التاريخية أنها لا تُلغي الأحزاب والتنظيمات السياسية، ولا تقوم مقامها، حيث تنتظم الأطراف المكونة لها انتظاماً فكرياً حول الأهداف المعلنة، والعمل الموحد من أجل تحقيق هذه الأهداف. وبذلك فهي تعبير عن إرادة مجتمعية مشتركة يرتفع أعضاؤها إلى مستوى المسؤولية التي تتطلبها المرحلة، ويتفقون على الأولوية المشتركة والمدخل الستراتيجي الصحيح للنهوض بالواقع. لذا فهي توافق حول وضع مفهوم سياسي ديمقراطي يُمكّن كل التيارات من العمل بحرية وشفافية، ومن التنافس من أجل تحقيق البرامج السياسية المختلفة بعد إقامة النظام الديمقراطي.
وتعتبر حالة العراق أكثر وضوحا للحاجة الملحة إلى قيام كتلة تاريخية بين التيارات الوطنية، على اعتبار إن المرحلة التاريخية الراهنة تحتم على أصحاب الحل والعقد التداعي إلى إنقاذ مجتمعهم والارتفاع إلى حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم في هذه اللحظة التاريخية، فما حصل ويحصل في العراق يمثل تحدياً لكل القوى الوطنية العراقية، وليس هناك من يداوي جراحات العراق غيرالعراقيين الوطنيين أنفسهم، مهما كانت التضحيات المطلوبة منهم، وهم مدعوون إلى العمل المشترك لمواجهة التحديات بشجاعة ونكران ذات.
وفي هذه الأجواء المتمثلة بالانسداد السياسي الذي يخيم على البلاد، وهذا التخبط في تفسير وتأويل المواد الدستورية والقانونية من قبل كل طرف وبما يتفق ونهجه السياسي، فإن الوقت قد حان لنشر الوعي بضرورة تشكيل كتلة تاريخية عراقية من نخب وتيارات ثقافية ومعرفية ومجتمعية، على مختلف توجهاتها الفكرية، فالكتلة التاريخية لا تُشكل بقرار سياسي، انما هي ضرورة تاريخية بحاجة الى وعي معرفي وثقافي، وايماناً بضرورتها وحتمية وجودها.
وهنا علينا الاستفادة من تجارب الآخرين، فمن الملاحظ أن تجارب العديد من الشعوب التي اتخذت من مفهوم الكتلة التاريخية كنهج في معالجة أوضاعها السياسية المعقدة اعتمدت في نجاحها على مدى وضوح الرؤية، وتحديد الأهداف المركزية المطلوبة، فكلما تم ضبط بوصلة الأهداف، واتضحت الرؤية، كلما كان النجاح حليف الساعين إلى تحقيق مبادئ وأهداف الكتلة التاريخية. وبذلك يمكننا القول، إن وجود كتلة تاريخية بات ضرورة وطنية، في ظل وجود هذه الإخفاقات السياسية وما قد يُسفر عنها من تداعيات أمنية، واقتصادية، واجتماعية. لهذا فإن الحاجة تدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تحالف وطني جديد، يضم جميع القوى الفاعلة في المجتمع، والتي من مصلحتها التغيير في اتجاه تحقيق الأهداف الوطنية العليا .