إسماعيل نوري الربيعي
ما يحكمنا هو التاريخ، نعم التاريخ و لا شيء سواه. و لكن عن أي تاريخ نتحدث، و هل ثمة تواريخ يمكن تمييز أحدها عن الآخر؟! فيما يكون السؤال الأشد وقعا، قائما على فرضية؛ الإنسان صانع التاريخ، والتاريخ صانع الإنسان؟! علاقة متداخلة تقوم على أحوال من التعقيد والتشابك والتعالق والأواصر المديدة التي لا تعرف سوى طرح المزيد من الأسئلة الحارة السخينة، التي لا تعرف الانطفاء.
التاريخ يصنع الراهن المعاصر، باعتبار أن من لا ماضي له، لا يمكن له أن يدرك الحاضر الذي يعيش. بينما تتناسل المزيد من الأسئلة هو الفاعل الإنساني الذي يعيش لحظة الراهن، بقوام الوعي المستمد من مسار العلاقات التي لا تنفك تثقل عليه المجمل من العلاقات والتفاعلات التي تحيط به. لعل الأهم من بينها مسألة الأصل والجذور والانتماء وعوالق الهوية، ومسار الولاءات والانتماءات، ورسم معالم التحديات والرهانات، وطريق صياغة الرؤى والتصورات. وأحوال التقمصات والمدركات وطريقة النظر إلى العالم. حيث (رؤية العالم) . ومن هذا السيل العرم من التداعيات يكون مجال التاريخ بمثابة الوعاء الذي يستوعب جلّ الطروحات والفرضيات التي تقوم عليها المجمل من العلوم الإنسانية.
التاريخ مستودع؛ الواقعة، اللحظة، الحدث، الحوليات، البيان، الحساب، الخلاصة، الماضي، الخلفية، السجل، الحيثيات. و لم لا، حيث يمكننا إضافة؛ بَائِد، هَالِك , بَارِح, سَالِف. أو حتى الإشارة إلى؛, تَمَّ, تَوَلَّدَ مِن, جرَى, حَصَلَ, شَجَرَ, صَدَرَ, كانَ, نَتَجَ, نَشَأَ, نَشَبَ, وقَعَ. فهل لهذا الحشد من المفردات أن توفي مفهوم التاريخ حقه، وهل لها أن تقترب من المعنى الجوهري الذي يقوم عليه التاريخ في لحظتنا التي نعيش؟!
دعوني أستل حادثة جرت رحاها في ثمانينيات القرن العشرين، باعتبار العناية بالزمن. مع أهمية تحديد المكان، حيث بغداد التي كانت تعيش أحوال الأسر من قبل سلطة تقوم على الافتراس والضراوة والوحشية، الموغلة في البربرية والهمجية والوحشية، حيث السيادة المطلقة لروح الغزو والهجوم والإفراط بالقسوة، والايغال بالبعد عن الحس الإنساني السليم. الحادثة التي أطرحها بأحوال المفرد. إنما هي في الواقع تمثيل حيّ لأحوال (حين يؤخذ الإنسان بجريرة غيره) . حيث التطلع الفض والمرير لمشغلات الهندسة البشرية، القائمة على الارهاب والترويع والفزع والتخويف، وترسيخ أحوال الهستيريا الجماعية حول الخشية من الذل، والتي وصفها الإمام علي بن أبي طالب؛ ( الناس في خوفهم من الذل، في ذل). حادثة الجميع عاش تفاصيلها، وعاش أحوال الترويع، وشحذ سنان أحوال الخطر من دون رغبة بالمغامرة. لا سيما حين يأتيك أحدهم وما أكثرهم. ليخبرك بــنكتة عن القائد الأوحد. أو حكاية أو تسريب إشاعة. لتصاب على حين غرة بلوثة ومس من اللًمْس والمس والهوس والوسواس. حتى لا تلبث أن تجد نفسك وقد أدركتها أحوال الاختبال والاختلاط والعته، بل أحيانا (العمى الوقتي) لتند عنك تلك الصيحة، التي باتت الأكثر شهرة وتداولا لدى العراقيين (أرجوك، آني ببختك، ما أريد أعرف). لحظة تتقاطع وصميم الفضول الإنساني، حيث النبذ لأوضاع التطفل والتدخل التي جبل عليها الإنسان العادي. وهكذا تتبدى أحوال صناعة التاريخ من لدن المستبد الجائر، الطاغية الظالم المتعسف. إذلال يبدأ بتعيم ثقافة الوشاية حتى لتعم أحوال الذهول والانكفاء والعزلة والفراق والإعراض عن لقاء الأحبة واجتناب الأصدقاء والأقارب، والاعتزال والافتراق، والانفصال والانكفاء والترك والجفاء والمغادرة والقطيعة والقلا
والهجر.
أحوال صناعة التاريخ تلك التي تقوم على محاصرة الإنسان الكامن فيك. والسعي الموغل في ترويضك من خلال بث الرسائل عبر القناة التلفزيونية الوحيدة. حول أهمية أن تنادي القائد بــ (سيدي كم أنت رائع)، مع ضرورة أن تتخلى عن عمرك، وتعمل بأمانة وإخلاص على إضافته لعمر القائد الضرورة. لماذا؟ لأنك لم تر الفرح إلا بوجوده. هذا مع أهمية تجيير حضورك وولائك الأيديولوجي لصالح السلطة بوصفك (بعثيا وإن لم تنتم) . ويا إلهي كم ظالمة وغشوم تلك اللافتة، حين تستبيح الداخل فيك.