ساطع راجي
أسهم درس التربية الوطنية للمدارس الابتدائية ومنهج كليات العلوم السياسية المؤدلج، إضافة الى الإعلام المسيس والكسول في تبسيط فهم العراقيين لكلمة "دولة"، حتى تورطت أهم الأحزاب السياسية في تسويق تصور ساذج عن الدولة.
لم يخبرنا الشيوعيون أن كلا من بيلاروسيا واوكرانيا كانتا تمتلكان مقاعد في الامم المتحدة منذ تأسيسها وأنهما كانتا تصوتان بطريقة مستقلة عن الاتحاد السوفيتي رغم انهما جزء من هذه الدولة التي تضم عمليا 15 دولة بدرجات مختلفة من الاستقلالية، أما روسيا القوية الحالية التي تهدد العالم الغربي فهي خارطة معقدة من الجمهوريات والاقاليم والتشكيلات تصل الى 85 كيانا سياسيا وهو ما يتجاهله عشاقها الجدد.
ولم يخبرنا الملكيون أن بريطانيا فيها عدة تكوينات بدرجات مختلفة من الاستقلالية والولاء وان هذه البلاد التي وضعت قوانين كرة القدم ليس لديها منتخب لكرة القدم يحمل "علم بريطانيا عاليا في المحافل الدولية"، بينما لكل جزء منها منتخب كروي يمثل فئة من السكان والقوميات ويضرب علم الدولة البريطانية بالكرة ومع ذلك لا تشعر الدولة بالحاجة الى فريق يجمع مواطنيها.
ولم يخبرنا البعثيون أن استراليا وكندا مثلا ليس فيهما رئيس للجمهورية وانما حاكم عام يخضع لملك بريطانيا، وان علاقتهما ببريطانيا قضية معقدة فهما تابعان ومستقلان مثلما لبورتريكو علاقة معقدة سياديا بالولايات المتحدة، وبالمثل تركيبات سويسرا والهند والنماذج الاخرى
الكثيرة.
هذه المعلومات البسيطة لا نريد معرفتها او التفكير بها، لقد فهم العراقيون إن الدولة ليست دولة الا بوجود رجل واحد فحل يحكمها من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال وان حكمه يبقى شرعيا ولو لم يحمل جنسية البلاد أو يحمل جنسيتين خلافا للدستور أو حتى لو قصف اهل البلاد بالكيمياوي.
إن الفهم الساذج لمعنى كلمة "دولة" هو حصيلة اداء ثقافي واعلامي سيئ، يقوم على تمجيد الحاكم وافتراض ان جميع سكان الدولة من نوع واحد، وهذه الفرضية رسخها مجموعة ضباط سذج ثقافيا وسياسيا ساهموا بدعم بريطاني في بناء الدولة العراقية رغم أنهم من مكونات متعددة، لكن الغريب انهم ما كانوا ينتبهون الى منابعهم المختلفة وتنوع الشعب العراقي الا عندما تتعرض مصالحهم للخطر وهو نفس ما يحصل اليوم.
هناك إصرار تاريخي على بناء دولة بسيطة في العراق، بلا دستور ولا برلمان ولا تمثيل إقليميا ومحليا، تسهل على الحاكم وبضعة موظفين كبار ادارة شؤونها كلها من مكاتبهم من دون مؤسسات حقيقية ولا تراتبية ولا توزيع للسلطات، دولة على مقاس من يحكم لا على مقاس المحكومين، حتى لو كان الحاكم مجرد مسلح خارج على القانون يحلم بدولة يحلبها مثلما يحلب الملاهي الليلية والمصارف والمقاولين وساحات وقوف السيارات، ويسوق الاعلام وبعض المثقفين لفكرته هذه باعتبارنا لا نصلح للديمقراطية ودولة المؤسسات وهما لا تصلحان لنا والأفضل الاكتفاء بعصا الانضباط العسكري، رغم المرات الكثيرة التي سقطت فيها دولة الانضباط وانهزم حكامها واحدا بعد الآخر خلال مئة عام.