إشكالية التلقي المُجتمعي للهويَّة العراقية

آراء 2022/05/09
...

 د. رسول محمد رسول
لا يعني بالضرورة تناول إشكالية الهوية الثقافية دفاعا مستميتا عنها في كل تجلياتها وأساليب تعبيرها عن جوهر خطابها التداولي، إنما يعني، من بين ما يعني، التواصل مع الهوية بوصفها مجالا أو حقلا للتأمل العملي، والتفكير النقدي، والمقاربة التداولية مع صيرورة الواقع الذي تدخل الهوية معه في تواصل بنائي من شأنه دعم دلالة الواقع من جهة والهوية من جهة أخرى، وبالطبع لا يعني نفي الدفاع عن الهوية ذلك التخلي المطلق عنه بوصفها مسَّا وجوديَّا لا يمكن لكل ما موجود في العالم النفاذ منه والتحرُّك في صيرورة الحياة بالانطلاق منه فلا شيء في العالم من دون هوية.
 
في ضوء هذا النمط من التبرئة، ولكي لا نترك للتأويلات التي من شأنها مسنّا بالحط من قيمة الهوية، نعتقد أنَّ الهويَّة الثقافية العراقية تعاني من إشكاليات عدة، فهي اليوم تنحو إلى مصير أقلّ ما يوصف به أنَّه شائك، ومعقد، ويشي بما لا تُحمد مغاليقه، إلا أنَّ مِعول النقد غالبا ما يصل بنا إلى حلول نسبية بقدر ما يصل بنا إلى مقاربات ربما من شأنها أخذنا إلى برِّ الأمان رغم قدرة إشكاليات الهويَّة اللعب المعرفي على ذقن الواقع ما يعني أنَّ حصرا دءوبا لأيَّة إشكالية من شأنه تفكيك عزلتنا عن إشكالياتنا المهيمنة، وتفكيك عزلة الأخيرة عن شغفنا بإعمال العقل والبصيرة لدراستها وإمعان النظر النقدي فيها. 
في هذه الدراسة، سنتوقف عند واحدة من تلك الإشكاليات هي إشكالية تلَّقينا لمعطيات هويتنا العراقية سواء كانت هذه المعطيات جوهرية تتعلق بذات الهوية أو موجوديتها الذاتية أم تتعلق بواقع ما نعيشه نحن في علاقتنا بهويتنا. 
 
النزعة التركيبية
هناك نوعان من الهويات الفاعلة في المجتمعات المعاصرة، إحداهما (الهويَّات البسيطة Uncomplicated Identity)*، أي تلك الهويات التي لم يدخل أي عنصر عرقي أو ثقافي أو حضاري في تكوينها على نحو واسع وكبير وهي الهويات التي كانت منتشرة في العالم القديم وتكاد تتضاءل يوما بعد آخر في ظل عمليات العولمة والتواصل والتثاقف البيني، وهو الأمر الذي أنتج النوع الثاني من الهويات، أي (الهويَّات المركبة (Synthesis Identity  تلك التي تتداخل فيها الثقافات ومعطيات الحضارات المختلفة، وجملة من عادات الشعوب وتقاليدها وأنماط أفكارها المهاجرة ذات الأفق التواصلي، في الماضي كانت الهوية الإسلامية قد تواصلت إلى تخوم ثقافات وحضارات عدة، وفي خلال ذلك تثاقف الإسلام مع ثقافات أخرى وبسط عقيدته ونمط ثقافته عليها، وبالمقابل نهل المسلمون من ثقافات الشعوب والأمم وأصبح العالم الإسلامي بفعل نزعته العالمية والإنسية ملتقاً لثقافة مركزية منفتحة ومتواصلة، وفي العصر الحديث التقت ثقافات وأعراق متنوعة في الولايات المتحدة الأمريكية وبات الآن ما يعرف بالهوية الأميركية وهي هوية مركبة ومتوالفة، ومن ذلك أيضا الهوية الأوروبية التي تعرَّضت بفعل سياسات الحروب والمصالح إلى تفكيك محلي (هوية ألمانية، هوية فرنسية، هوية إسبانية إلخ..)، لكن أوروبا اليوم تسعى نحو التوحّد لخلق أجواء ومفاعيل هوية مركبة، فتوحيد العِملة فيها (يورو) لا يعني بالمرّة نسف خصوصية الهوية الفرنسية أو الألمانية.
الأمر ذاته بالنسبة للهويَّة العربيّة أو العراقية، فهي الأخرى لا تبدو إلا هويَّة من النوع الثاني، ودعك من النزعة التبجيلية والحُلُميَّة التي يضطلع بها عدد من مفكرينا وكتابنا القوميين التي تُريد، قسراً، جعل الهوية العربية خصوصية مُستقلة خالصة من التعدّد الواضح المعالم والمعطيات التنويعية في كل هوية محلية، نعم هناك عدد من الروابط الثابتة التي تميز الهوية العربية أو العراقية عن غيرها (الأوروبية، الفارسية، التركية، الهندية) مثل: اللغة والعادات والتقاليد، ولكن كل هذا لم يُخف التعدّد والتنوّع حتى لتبدو الهوية العربية أو العراقية توليفا لهويات محلية تفترق بقدر ما تتجاور وتتوالف 
وتتواصل. 
إن جولة في واقع الوطن العربي توحي بكل هذه المُعطيات، وفي خلال عقود طويلة في القرن العشرين كثيرا ما كنّا نرمي باللائمة على الاستعمار الحديث أنه مزّق الهوية العربية وكذا العراقية، إلا أننا اليوم لم نعُد نحتاج إلى هذا التفسير؛ ذلك أنّ لجوء العرب والعراقيين إلى توظيف وسائل الاتصال العابرة كشفَ عن النزعة التركيبية في الهوية العربية، الثقافية والحضارية.. الخ، وعلى نحو واضح في حياة العرب اليوميّة، وفي قيم التداول المجتمعي، وفي مفردات النظر إلى الغير والآخر والمختلف، بل حتى في النظر إلى 
الذات.
 
مرونة الهوية
لهذه النزعة، التركيبية والتوليفية، تأريخ عميق وحافل عبر صور متراكمة شاركت في بناء الهوية المجتمعية العربية، لقد كان للإسلام الذي طال آفاق شاسعة من العالم القديم دوره في نقل معطيات الثقافة العربية والعراقية إلى الأصقاع الثقافية والحضارية الأخرى، وبالمقابل تمكّن المسلمون والعرب من احتواء ثقافة الآخر ومعطياته الحضارية، إن عملية التثاقف هذه أنتجت بناءً من القيم والأفكار والتصوّرات وأساليب فهم متبادلة بين الأمم والشعوب، وخلقت تراكما من التمثيل المشترك بين البشر، وهو ما دخل بفاعلية في بناء الهوية العربية بأحدث تكريس لها في حياتنا المعاصرة، هذا العُمق التاريخي من الحِراك التفاعلي، أي التنافذ الثقافي والحضاري، أضفى على الهوية العربية والعراقية صفة المرونة Pliability في أغلب عمليات هذا الحِراك عبر التاريخ، فقد تجلّت هذه المرونة في الكثير من الاتجاهات الفكرية العربية الحديثة، سواء كانت اتجاهات فكرية أم ثقافية فضلا عن الحضارية والتمدينية منذ أن دخل العرب والعراقيين حيز العصور الحديثة قبل قرنين من الزمان حتى عصر العولمة الذي نعيش في أجوائه ووسائله وأساليب التعبير 
عنه.
إن صفة المرونة التي تتمتع بها الهوية العربية لم تقف عند حدود التواصل مع هويات المختلف أو الآخر، إنما شاركت، خلال الربع الأخير من القرن الماضي، في نوع من الإثراء الداخلي لهوية العربية ذاتها، لقد كانت المقاربات على أشدها للموائمة بين العروبة والإسلام أو بين القومية والإسلام ضمن مُسميات وعنوانات واضحة وغيرها اتخذ تسميات أخرى مثل ثنائية الأصالة والمعاصرة، أو الأصالة والتحديث وغيرها من الثنائيات.
ومن ثم شهد الوطن العربي على الصعيد المذهبي اللجوء إلى مشروعات التقريب بين المذاهب الدينية، والخروج من مأزق الاختلاف عبر الدعوة إلى الوسطية في ممارسة العقيدة الدينية، ومن ثم، وعلى الصعيد العملي، شهدت الدول العربية والعراقية تكريسا لمشروعات التقارب الاقتصادي والثقافي والعلمي البيني، ناهيك عن التكتلات السياسية الأخرى مثل مجلس التعاون الخليجي أو الاتحاد المغاربي حتى وإن تعثَّر أو مشروعات وحدويّة أخرى طالها الفشل! واليوم، وبسبب تمثيل عناصر العولمة، والتبادل المعلوماتي، والنزعة الاتصالية، وهيمنة سلطة الشبكات العابرة، بات التواصل الهويّاتي على أشدّه الذي أخذ ينعكس على نُظم العمل، والقرابة، والإنتاج الفني والثقافي ضمن مشروعات ما هو عابر للحدود والجغرافيات المحلية، الأمر الذي يعني أنّ فلسفة الهويّة تتغير طبقاً لفلسفة العصر، خصوصا ذلك الجانب القابل للإثراء والتواصل الذي يستمِّد من حركيّة الواقع اليومي في كل معطياته المُنتجة، وعلى أكثر من صعيد..، رصيده في إثراء بنية الهويّة ذاتها، وتوطيد صلاتها الجوهرية مع تجليات وصيرورة الواقع الذي يسهم في تعزيز ديمومتها.
في ضوء ذلك، وبإزاء حالة الهويّة هذه، كيف تلّقينا هويّتنا؟
 
اجترار هويّات الماضي
هناك نوعان من التلّقي للهويّة على الصعيد المجتمعي، تلّقي نخبوي انتقائي، وآخر تلّقي شعبي أو جماهيري عام، وكلاهما شكلَّ مشهديّة التلقي في المجتمع العربي.
مما لا ريب فيه أنّ كل تماهي مع مبدأ كليٍّ ما، ومنه التماهي مع الهويّة، يستدرج أو يجتر أو يستحضر معه دلالات وأساليب التعبير عن هويّة الإنسان سواء بوصفه فردا أو بوصفه جزء من القبيلة أو الطائفة أو المنطقة أو الإقليم أو الوطن أو القومية أو الأمة أو أي تكوين تعبير آخر، وفي هذا السياق أبدت النُخب العربية والعراقية اتجاهات وأساليب تلّقيها للهويّة العربية خلال المراحل الماضية في التاريخ الحديث.
لقد جرَّبت النُخب العربية، الثقافية والسياسية والدينية، اتجاهات فكرية وثقافية وسياسية عدة خلال القرن العشرين، فقد عملت في اتجاه يستحضر القومية العربية أو العلمانية الغربية، فضلا عن الأصولية الإسلامية، وفي خلال قرن من الزمان قُدِّر لهذا الاستحضار أنْ يُكرِّس رؤية شمولية في التعبير عن الهوية الخاصّة بكل اتجاه، الهويّة القومية، والهويّة العَلمانية، والهويّة الأصولية، لتطال ما هو ثقافي وسياسي وإيماني وعقائدي على صعيد تصريف معطيات ومفردات هذه الهويّات قي خضم حياة اليومية للأفراد والجماعات التي تمَّ اجتذابها إلى فضاء ومسرح كل واحدة من هذه الهويّات ضمن حِراك الحياة العامة في المجتمع العربي بكل تحولاته السياقية أو العاصفة التي مرَّت به. 
ومع هزيمة 67، والثورة النفطية العربية والإسلامية بالوطن العربي في السبعينيات، وصعود الحماسة الإسلامية، ومن ثمَّ ظهورها بوصفها مزاحمة سياسية فاعلة في المجتمع الخليجي وغيره من المجتمعات العربية الناشطة، وبالتالي اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 حيث تكريس نظرية (ولاية الفقيه) لأولِّ مرة في هذا العصر، تنادت هذه الهويات الثلاث إلى مسعى (التأصيل التاريخي)، لقد بحث العراقيون عن جذور كل ذلك في الفكر السومري والبابلي والآشوري، وبحث الشاميون عن جذور كل ما هو قومي وعرقي ومادي في التراث العربي والإسلامي، بل قبله أيضا، وبحث اللبنانيون عن جذورالعَلمانية والحداثة في التراث، بينما بحث المصريون عن كل ذلك رغبة في الشمول؛ مضافاً إلى ذلك تأكيد ما هو فرعوني في القديم، ومصري جديد في العصر الحديث ناهيك عن تأصيل الدور المصري في تنضيد رؤى الإسلام السياسي الذي ظهر في النصف الأول من القرن العشرين ونما في العقود التالية له، ولم يفت المغاربة تأصيل الدور الخلدونيّ وأهميته في العصر الحديث. 
لقد بدا التأصيل الهوياتي حِراكا بارزا ومنتجا في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي بالوطن العربي، ومع إنه عُدَّ ظاهرة منتجة على صعيد التراكم المعرفيّ؛ بل والمعارفيّ (الأبستمولوجي)، حيث كشفّ عن مغاليق في التراث الهويّاتي، وعن الكثير مما سكت عنه العقل النقدي العربي، بل والاستشراقي الذي اهتم بالتراث العربي والإسلامي، وما لم تسمح ظرفيّات مناهج التحليل المعتمدة عربيا خلال الفترة المنصرمة ذاتها بدراسته وتشخيصه، بل وما أسكتته أنظمة الحكم والسياسة العربية، رغم ذلك، أفرز هذا التأصيل في تلَّقي الهويّة العربية من قبل نُخبنا إشكالية التطرُّف عن الواقع العربي فعلاً، ومع إنّ وجود الكيان العبري بكل طموحاته التاريخية ونزعة التأصيل الساخنة لديه في قلب الوطن العربي، وهو كيان نزيل، كان أحد الأسباب التي دعت النُخب العربية إلى تأصيل هويّاتها القديمة، فإننا لا نجد أنّ الحِراك التأصيلي العربي قد وجد له معادلاً موضوعيّا واسعاً ومنتجاً لدى الناس في الوطن العربي والعراق؛ لأنّ هذا التأصيل أسس رؤيته على ما هو سياسي وبما يفوق البُعد الثقافي، كما أنّه أسسَ رؤيته على ما هو عرقي ربما وجد ذلك شيئا من الاستجابة لدى بعض الناس لكنّها أيضا استجابة محدودة؛ وذلك بسبب ضغوط الحاضر بكل مشكلاته وتداعيات ذلك على الإنسان العربي والعراقي في القرن العشرين، ما كان يؤرِّق الفرد هو حاضره المُر الذي يعيش فيه؛ الفقر الاقتصادي، والتردي الصحي، والضعف العلمي.. الخ، ما يعني أنّ (سياسة التأصيل) التي اتبعتها النُخب العربية وكرستها كانت نخبويّة فعلاً، ومقطوعة الوصل مع مشكلات المجتمع العربي؛ فالتغني ببابل، وآشور، وفرعون، وفينيق، لم يقدّم خبزاً أو يدفع عن الإنسان العربي العراقي سطوات الحياة المادية والسياسية التي يواجهها، فهذه الهويّات قصيّة في بعدها الزمني، وغريبة على الإنسان العربي الذي تضغط عليه هويّات أخرى، ومنها هويّات التخلُّف الاقتصادي، والتعليمي، والصحي، والسياسي والتنموي في كل صوره، فضلا عن هويّات التطرُّف الإسلاموي الأصولي، ناهيك عن الهويّات التي أفرزتها مرحلة الاستعمار التقليدي والمحدث، وهويّة الاستعمار الجديد في ظل القرن الأميركي
الجديد.